أخي: أنت إذا أردت أن تصل لمعرفة طريقة المتقدمين: لا شك أنّك لا تكتفي بمثال واحد ولا اثنين ولا بكتاب ولا اثنين ولا بعالم واحد ولا اثنين، بل يجب أن يكون هناك سبر وتتبّع وجرد لكلام المتقدمين ليصل الشخص إلى قناعة بأنّ هذا هو منهجهم، وكذلك المتأخّر لايمكن أن أصل إلى قناعة بدعواك هذه بمجرد أمثلة قليلة.
قلت بارك الله فيك: (وفي تمثيلك بمتون الفقه عندي ملحظ أحب أن أصرّح به، وهو أن منهج المتون الفقهية فيه ما فيه، وأدى إلى انعكاسات خطيرة - أحياناً - على علم الفقه ذاته، واختصارا للمقال أسأل: هل يستوي من تعلّم الفقه من تفسير الكتاب العزيز وأحاديث الأحكام، ومَن تعلمها على المتون الفقهية ذات الشروح التي لا تكاد تذكر دليلاً (فضلا عن ما اشتهر به كثير منها من ترجيح القول في المذهب - أو أرجح الأقوال فيه - على القول الذي هو أسعد بالدليل) في كثير من المسائل، أما نفس المتون فهي خلو من الأدلة للاختصار بزعم واضعيها ومَن تابعهم، وكلام الأئمة (المتقدمين مرة أخرى وعلى رأسهم الإمام أحمد) في نقد هذا المسلك شهير معلوم) انتهى.
قال العزيز بالله: أحسنت وهذا أنا أشرت إليه: وأردت باتمثيل بالمتون الفقهية: أنّ من اعتبرها غاية جمد وتعطّلت آلته الفهيّة: مثل ذلك الّذي اعتبر التقريب مثلاً وقواعد المصطاح غاية فإنه سيجمد كثيراً وستتعطّل آلته النقديّة.
أمّا من اعتبر المتن الفقهي صورة مبدئيّة للفقه يأخذ منها تصوراً شاملاً وقواعد إجماليّة للطريقة الّتي يسير عليها الفقه في عامة مسائله ويبقى على الفقيه بعد تكون الملكة الفقيهة وتصوره للفقه أن يبدأ بنقد الآراء والاجتهاد في الحوادث.
وكذلك من عمل نفس الأمر مع كتب الاصطلاح ومختصرات الكتب في الرجال هي فقط تعطي الصورة الشاملة للعلم والطريقة العامة والأصل الّذي يعتمد عليه المحدث ويبقى عليه بعد ذلك أن يكون له الذوق الخاص في كل حديث بحسب القرائن المحتفّة به، وهذا يكون بعد تكون ملكة النقد لديه وهي في الحديث أصعب من الفقه بكثير.
قلت: (وفي ما علّقتَ به - مشكوراً - على ما ذكرتُه في الحد بين الصحيح والحسن ما أجزم معه أنك لم تفهم مرادي مما سبق (ربما لقصور عبارتي) وأتمنى أن تتكرم بإعادة النظر في كلامي حول هذه النقطة في ردي السابق، فإن توضيحي لكلامي ونقدي لكلامك سيستغرق مساحة كبيرة لا أرى لها كبير حاجة، فإن بقي لديك ما تبينه فإني أرحب به) انتهى.
قال العزيز بالله: بالعكس أنا أحسب أنّي فهمتك وأنا بيّنت لك مرادي وأنّهم في وضع الفرق بين الصحيح والحسن يحيلون على أمر محسوس، وبيانه بما يلي:
إنّ الحكم على حديث ما يحتاج من الناقد إلى النظر في توافر مجموعة من الصفات والشروط وهي قسمان:
قسم وجودي وهو ثلاثة أمور: اتصال السند، ضبط الراوي، عدالته.
وقسم عدمي: وهو عدم الشذوذ والعلة، أي الناقد يبحث ليتأكد أنّ هذا السند الّذي توفر فيه الأمور الوجودي المذكورة، لا يوجد ما يعكّر عليه، فهو يتوسع في كتب الرجال لربما يتبين أن الراوي وإن كان عدلاً لكنه في شيخه هذا ضعيف، أو في روابته هذه بالذات حصل له غفلة أو نوم في مجلس التحديث مثلاً.
ولربما تبين أنه لم يسمع منه، أو أنه لم يلتق به وإن عاصره ووو الخ.
وهو يبحث في كتب العلل لعلّ أحداً من المتقدمين نص على علة له ولا تُعرف من ظاهر الحال.
وقِس على ذلك سائر المراجع الّتي ذكرتها في مقالك عن الفرق بين الحسن والصحيح.
وأنت تلاحظ أنّ هذا الأخير هو جهد الباحث ليطمئنّ إلى سلامة الأصل فقط، وهذا لا يقدح في كون الفرق بين الحسن والصحيح هو خفة الضبط، فإذا تأكّد من سلامة السند والمتن من العلة والشذوذ: ووجد أمامه سنداً متصلاً برواية ضابطين فهو صحيح: وإن وجد من خفّ ضبطه فهو الحسن.
وبهذا فإنّ هذه الفروق الّتي يذكرها المتأخّرون لا تلغي دور الناقد والباحث في الحقيقة وإنّما هي تضبطه في وتقننه خصوصاًفي البداية.
صحيح أنّ الكلام لعب دوراً في وضع الاصطلاح وهذا ليس خاصاً بالمصطلح بل سائر العلوم حتى العربية أصبح فيها مسند ومسند إليه ومحمول وموضوع ومبتدأ وخبر، وهذا لم ينكره أحد مادام لم يغير المضمون وإن كان له أثره في السلبي أحياناً.
لكن هذا لا يبرر دعوى أنّ متأخري النحاة لهم منهج يخالف متقدميهم.
وكذاك يُقال في علم الحديث.
قلت: (ولي عودة - إن شاء الله تعالى - إلى ما تفضلتَ به في مسألة زيادة الثقة، وتحديداً (ضرب أمثلة من كلام المتقدمين ردوا فيها زيادة ثقة لمجرد كونها زيادة)، وقبل عودتي هذه أقول: يمكنك أن تعزو ردهم هذا إلى وجود علة أخرى، في حين أني أؤكد أن تفرده في مقابل غيره ممن لم يذكر الزيادة هو العلة، قد لا نصل إلى موضع اتفاق في هذا الجزء، فإن رأيتَ - مع ذلك - أن أضرب أمثلة فعلتُ إن شاء الله تعالى.) انتهى.
قال العزيز بالله: أرجو منك العودة فعلاً: وضرب الأمثلة الّتي يتبين فيها بجلاء يقتنع به المخالف أنّ رد الزيادة لمجرد الزيادة لا لعلة فيها، فهذا الأمر مهم جداً بل هو مفصل في الخلاف لأنه سيبين هل القول بأنّ الأصل في زيادة الثقة القبول مقبول من قائله، أم أنّه لا يجوز أن يُقال ذلك.
والله أعلم أحكم.
¥