لرسالة سماها (الكاوي لدماغ السخاوي) (45)، فليعرف المطلع على ترجمة هذا الفاضل في (الضوء اللامع)، أنها صدرت من خصم له غير مقبول عليه".
ثم مضى الشوكاني في نقل كلام السخاوي فاستوفاه جميعه، وبعد أن فرغ من ذلك انبرى يدفع عنه ويقول:
"وأقول: لا يخفى على المنصف مافي هذا المنقول من التحامل على هذا الإمام".
وراح يفند أقوال السخاوي، ويكاد ينحصر دفاعه عنه في الوجوه التالية:
ـ عدم استساغة السيوطي لعلم الحساب واستثقاله على فهمه ليس دليلاً على عدم ذكائه وظلام بصره، يقول الشوكاني:
"إن ما اعترف به من صعوبة علم الحساب عليه لا يدل على ما ذكره من عدم الذكاء، فإن هذا الفن لا يفتح فيه إلا على ذكي إلا نادراً كما نشاهده الآن في أهل عصرنا".
ـ إنكار معاصري السيوطي عليه دعواه الاجتهاد، يرد الشوكاني:
"وكذلك سكوته عند قول القائل له: نجمع لك أهل كل فن من فنون الاجتهاد، فإن هذا كلام خارج عن الإنصاف، لأن رب الفنون الكثيرة لا يبلغ تحقيق كل واحد منهم ما يبلغه من هو مشتغل به على انفراده، وهذا معلوم لكل أحد".
ـ سطوه على الكتب ومسخها، يقول الشوكاني:"وكذا قوله: إنه مسخ كذا، وأخذ كذا، ليس بعيب، فإن هذا ما زال دأب المصنفين، يأتي الآخر فيأخذ من كتب من قبله، فيختصر، أو يوضح، أو يعترض، أو نحو ذلك من الأغراض التي هي الباعثة على التصنيف، ومن ذاك الذي يعمد إلى فن قد صنف فيه من قبله فلا يأخذ من كلامه ... ".
ـ رده شناعة السخاوي على السيوطي تبجحه بكثرة مصنفاته فيقول:
"وقوله: إنه رأى بعضها في ورقة، لا يخالف ما حكاه صاحب الترجمة من ذكر عدد مصنفاته، فإنه لم يقل: إنها زادت على ثلاثمئة مجلد، بل قال: إنها زادت على ثلاثمئة كتاب، وهذا الاسم يصدق على الورقة وما فوقها".
ـ توجيهه الادعاء بسعة الأخذ والسماع على الشيوخ:
"وقوله: إنه كذبه القمصي بتصريحه أنه بقي من (المسند) بقية: ليس بتكذيب، فربما كانت تلك البقية يسيرة، والحكم للأغلب. لاسيما والسهو والنسيان من العوارض البشرية، فيمكن أنه حصل أحدهما للشيخ أو تلميذه".
ـ إبطاله دعوى السخاوي أن السيوطي كثير التصحيف والتحريف:
"وقوله: إنه كثير التصحيف والتحريف: مجرد دعوى عاطلة عن البرهان، فهذه مؤلفاته على ظهر البسيطة محررة أحسن تحرير ومتقنة أبلغ إتقان".
ثم يتحول الشوكاني من الذب عن السيوطي إلى اتهام السخاوي بعدم النصفة والموضوعية، ويقرر أن كل ما اتهمه به مرفوض، يقول:
"وعلى كل حال فهو غير مقبول عليه لما عرف من قول أئمة الجرح والتعديل، بعدم قبول أقوال الأقران في بعضهم بعضاً مع ظهور أدنى منافسة، فكيف بمثل المنافسة بين هذين الرجلين التي أفضت إلى تأليف بعضهم في بعض، فإن أقل من هذا يوجب عدم القبول. والسخاوي ـ رحمه الله ـ وإن كان إماماً غير مدفوع لكنه كثير التحامل على أكابر أقرانه كما يعرف ذلك من طالع كتابه (الضوء اللامع) فإنه لا يقيم لهم وزناً، بل لا يسلم غالبهم من الحط منه عليه، وإنما يعظم شيوخه وتلامذته ومن لم يعرفه ممن مات في أول القرن التاسع قبل موته، أو من كان من غير مصره، أو يرجو خيره، أو يخاف شره".
ويحرص الشوكاني على ضرب الأمثلة ينهضها أدلة على ما يذهب إليه في دفعه عن السيوطي. ثم يمضي في إطرائه والإشادة بقيمة كتبه ومصنفاته التي طبقت شهرتها الأمصار والآفاق.
ويبدو لكل ذي بصر ومتأمل أن دفاع الشوكاني عن الجلال، وحماسه في نصرته أقرب إلى الاعتذار له والتسويغ لما تصرف فيه من إقامة الحجج والبراهين التي تدمغ دعاوى السخاوي وتدحض أقواله.
*رأينا في أسباب كثرة تصانيفه:
وبالجملة فيكاد يتفق من ترجم للسيوطي من المؤرخين أنه يأتي مجلياً في مقدمة الطبقة الأولى من علماء رأس المئة التاسعة. ولكن ـ جل جلال المتفرد بالكمال وسبحانه ـ، فإن شدة ولع السيوطي بالتأليف، وعرامة شهوته إلى الإكثار من إخراج الكتب: مجلداتها، أجزائها، رسائلها، قد أزجياه إلى مزالق ماكان أغناه عنها، فمن ذلك ما نحدس بأنه كانت تعرض له الخاطرة يرى أنها تستحق الكتابة فيها، أو يعن بباله المعنى يجد أنه أهل لأن يؤلف فيه، فيوكل من ذلك إلى أحد من تلامذته، أو من يشتغل عليه، أمر تتبع بعضه في مظان يهديه إليها، فيجمع ذاك منها ماشاء الله أن يفعل في تلك الخاطرة أو ذاك المعنى، وقد يؤلف بين ما جمعه من نقول، ثم يعرض محصوله على
¥