وهذا الكلام الذي ساقه النووي بهذه الصفة الجازمة لم يقل به جماهير السلف من المحدثين الأوائل من أهل المعرفة التامة بعلل الحديث، ومع ذلك صار هو مذهب جمهور المتأخرين من الفقهاء والمحدثين بقبول زيادة الثقة مطلقاً ()، منهم: ابن التركماني، والعراقي، وابن حجر , والسخاوي، والسيوطي، ومن العصريين: العلماء الأعلام؛ الشيخ أحمد شاكر، والشيخ ناصر الدين الألباني وكثير من تلامذتهم. والأخذ بمثل هذه القاعدة على هذا الاضطراد فيه تقليل من شأن كتب العلل الأولى، ذلك أن أكثر العلل في كتابي ابن أبي حاتم والدار قطني تدور على هذا النوع.
ومع أن المصنف ذكر في علله الصغير أنه: "إذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قبل ذلك منه" ()، إلا أن صنيع المؤلف في الأحاديث التي أعلها هو أو شيخه البخاري يبين أن الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع والزيادة وعدمها ونحوها إنما مداره على قوة القرائن، ومنها اعتبار: الأوثق، والأحفظ، والأكثر، ونحو ذلك، وهو مذهب المتقدمين الصحيح.
وقد ساق الترمذي حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في المواقيت، ونقل عن شيخه البخاري قوله: "وحديث محمد بن فضيل خطأ، أخطأ فيه محمد بن فضيل، وذكر أن الصحيح فيه حديث الأعمش، عن مجاهد، قوله" ()، ثم ساقه من قوله مجاهد ().
وهذه العلة ردها العلامة أحمد شاكر، وغلط من قال بها، وقال: إن الرواية المرسلة أو الموقوفة تؤيد الرواية المتصلة المرفوعة، ولا تكون تعليلاً لها أصلاً". وأيده في ذلك العلامة الكبير الشيخ ناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة ().
وهذا الذي ذهب إليه العلامتان فيه نظر، فالموقف هنا علة للمرفوع إذا ثبت برواية الثقات الراجحة، والرفع شذوذ، وهو مبدأ العلماء الجهابذة الأوائل، قال أبو حاتم: "هذا خطأ، وهم فيه ابن فضيل، يرويه أصحاب الأعمش، عن الأعمش، عن مجاهد، قوله" (). وقال العباس بن محمد الدوري: "سمعت يحيى بن معين يضعف حديث يريد: إن للصلاة أولاً وآخراً، وقال: إنما يروى عن الأعمش، عن مجاهد" ()، وقال الدار قطني: "هذا لا يصح مسنداً، وهم في إسناده ابن فضيل". ومحمد بن فضيل ثقة، كما بيناه في "تحرير أحكام التقريب"، لكن هؤلاء أربعة من الجهابذة: البخاري، وأبو حاتم، وابن معين، والدار قطني إضافة إلى الترمذي قد أعلوا الحديث، فماذا بعدهم؟
وقد أعل المصنف حديث عبد الرزاق – وهو ثقة معروف – عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، بمن رواه عن سفيان مرسلاً، فقال: "روى بعضهم هذا الحديث عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فأمره أن يأخذ، وهذا أصح () ".
وأعل المصنف حديث الفضل بن موسى السيناني – وهو ثقة – عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة يمينا وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره، بحديث وكيع المرسل، فقال: "هذا حديث غريب"، وقد خالف وكيع الفضل بن موسى في روايته ". ثم ساق حديث وكيع، عن عبد الله، عن بعض أصحاب عكرمة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه (). وكذلك قال أبو داود.
وقد صحح الحاكم وبعض العلماء الفضلاء المعاصرين الرواية المتصلة واستعجبوا من صنيع الترمذي وأبي داود المرسل، مع أن القواعد الحديثية التي أصلها الجهابذة الأوائل ترجح المرسل، فعند الموازنة بين وكيع والفضل بن موسى لا يشك أحد من أهل العلم بأن وكيعاً أتقن وأحفظ، فضلاً عما عرف في بعض حديث الفضل بن موسى من المناكير كما قرره علامة الدنيا على ابن المديني ()، إضافة إلى أقوال العلماء الفهماء من الجهابذة المتقدمين: الترمذي وأبي داود الذي قال بعد أن ساق المرسل: " وهذا أصح – يعني من حديث عكرمة عن ابن عباس". وقال الدار قطني بعد أن ساقه متصلاً: وأرسله غيره ().وهو إعلال للرواية المتصلة.
ومن ذلك أن الترمذي أعل حديث عامر بن صالح الزبيري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في تطييب المساجد ()، ثم ساقه مرسلاً من رواية سفيان بن عيينة عن هشام مثل رواية عبدة ووكيع ().
¥