من قَالَ من الأئمة إنَّ الحسن لم يلق عليًّا، أو لم يثبت منه سماع فهو مشكل، ولم يَقُمْ عليه دليل ظاهر، وهو معارض بما رواه الحافظ أبو يعلى قَالَ: حدَّثنا أبو عامر حوثرة بن أشرس العدويِّ، أخبرني عقبة بن أبي الصَّهباء الباهليِّ، سَمِعْت الحسن يَقُوْل سَمِعْت عليًّا رضي الله عنه يَقُوْل، قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مثل أمَّتي مثل المطر، لا يُدرى أوَّله خير أو آخره، بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، طوبى للغرباء)).
فهو نصٌّ صريح في سماعه منه، ورواته ثقات، مُتَّصِلٌ بالإخبار والتَّحديث والسَّماع.
حوثرة وثَّقه أحمد، وهو معروف بالرِّواية عن عقبة.
وعقبة وثَّقه أحمد وابن حِبَّان وابن معين. انتهى
هل هو صحيح أم لا؟
فأجاب بما نقلته من خطِّه:
هَذَا البحث الَّذِيْ أبداه الصَّيرفي لا يستقيم على قواعد أئمة الحديث، وإنَّما يستقيم على قواعد بعض أهل الأصول والفقه، لأنَّ من قاعدة أئمة الحديث عند اختلاف الرُّواة في التَّنافي، تقديم قول الأكثر والأحفظ والأعرف بالشَّيخ الَّذِيْ وقع الاختلاف عليه، بأن يكون طويل الملازمة له، إمَّا لقرابته منه، لكونه ولده أو أخاه أو من عصابته أو ذوي رحمه أو لكونه من جيرانه إلى غير ذلك.
ونشأ لهم ذلك من اشتراطهم في الصَّحيح والحسن أو لا يكون شاذَّاً بعد أن يعرفوا الشُّذوذ الَّذِيْ يشترط نفيه هنا، أن يخالف الرَّاوي في روايته من هو أرجح منه عند من يعتبر الجمع بين الرِّوايتين، بخلاف الفقيه والأصولي، الَّذِيْ أشرت إليه، فإنَّ من قاعدته تقديم من معه زيادة، فإذا أثبت الرَّاوي عن شيخه شيئا، فنفاه من هو أحفظ منه أو أكثر عددا، أو أكثر ملازمة قالوا " المثبت مقدَّم على النَّافي "، فقيل: ومن ثمَّ قَالَ ابن دقيق العيد " إنَّ كثيرا من العلل الَّتِيْ يردُّ بها أهل الحديث، لا يرد بها الفقيه والأصوليُّ الحديث "، واحترز بقوله " كثيرا " عن من وافق المحدِّث في بعض ذلك، وقد نصَّ الشَّافعي على موافقه أهل الحديث في تفسير الشَّاذ وفي تقديم الأحفظ، فَقَالَ " ليس الشَّاذ أن يروي الثِّقة شيئا فينفرد به، الشَّاذ أن يروي شيئا، فيخالف من هو أرجح منه " هَذَا معنى كلامه.
وقال في خبر احتجَّ به عليه بعض أصحاب مالك، لأنَّ مالكا احتجَّ به على وفق ما ذهبوا إليه، فَقَالَ الشَّافعي " خالفه سِتَّة أو سبعة، لقيتهم متفقين على خلاف ما روى مالك، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد "، وقرَّره بعض أصحابه بأنَّ ردَّ قولَ الجماعةِ بقولِ الواحدِ بعيد، مع أنَّ تطَرُّق السَّهو إلى الواحد أقرب من تطرُّقه إلى العدد الكثير، ومن ثمَّ اشترط في قبول شهادة المرأة أن يُضمَّ إليها أخرى ليتعاونا على ضبط ما يشهدان به، لأن تطرُّق السَّهو إلى المرأة أكثر من تطرُّقه إلى الرَّجل، لنقصها.
وقد وافق بعض أهل الأصول والفقه هذه القاعدة في بعض الصُّور، وهي ما إذا اتَّحد مجلس التَّحديث، كما لو سمع جماعة من شيخ في مجلس واحد حديثا، ثمَّ خرجوا من عنده، فحدَّثوا بما سمعوه منه، فخالفهم واحد منهم، فأتى بزيادة تنافي ما اتَّفق عليه الجماعة، فإنَّ روايتهم تُقدَّم على روايته للعلَّة الَّتِيْ تقدَّمت.
فإذا تقرَّرَ هَذَا، فالذين جزوموا بان الحسن البصري لم يسمع من علي لما ثبت عندهم من أنَّ الحسن لمَّا كان منشؤه بالمدينة النَّبويَّة حتَّى قتل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وله يومئذ أربعة عشر عاما، لم ينقل عنه أنَّه طلب العلم، ولا تشاغل بسماع الحديث، فلمَّا استُخلف عليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وخرج من المدينة إلى العراق بعد ثلاثة أشهر أو نحوها، استمرَّ الحسن بالمدينة، ولم يرجع عليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إليها، بل استمرَّ منشغلا بحرب الذين خالفوه إلى أن قُتِل علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بعد أربع سنين وثمانية أشهر من أوَّل خلافته، فتوجَّه في ذلك الوقت الحسنُ إلى البصرة، فسكنها، واستمرَّ إلى أن مات، إلاَّ أنَّه حجَّ في اثناء ذلك، وخرج إلى خراسان في خلاف معاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كاتبا للرَّبيع بن زياد الحارثي حين استخلفه عبد الله بن عامر على خراسان، وكان أميرَها لمعاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ثم رجع الحسن على البصرة، فأقام بها مشتغلا بالعبادة والقصص على النَّاس وتعليمهم الأحكام الشَّرعيَّة، وولي القضاء في خلال ذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مدَّة يسيرة بالبصرة، ثم ترك ذلك وأقبل على شأنه حتَّى مات.
ومن حُجَّتهم في أنَّه في خلافة عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لم يكن تصدَّى للاشتغال بالسَّماع ثُمَّ التَّحديث، أنَّ الجمهور أطبقوا على أنَّه لم يسمع من أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مع أنَّه في تلك المدَّة كان أبو هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فيها وفيما بعدها قد تصدَّى للتَّحديث، وطول عمره، فلو كان الحسن يتشاغل بطلب الحديث، لحصل له عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الشَّيء الكثير، لإقامتهما بالمدينة تلك المدَّة.
وعلى تقدير التَّنزُّل، لا يلزم من صحَّة سماعه من عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لهذا الحديث، أن يكون سمع جميع ما نُقِلَ عنه، لأنَّه اشتهر عنه أنَّه كان يرسل عن من عاصره، سواء أجتمع به أم لا.
ومن هَذَا سبيله كان ما يرويه بالعنعنة عن من عاصره أو اجتمع به إمَّا مرسلا أو مدلَّسا، وكذا القول في كُلِّ من اختلف فيه ممن روي عنه، هل سمع منه أم لا، كأبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، والعلم عند الله. اهـ
¥