وسأقتصر في هذا البحث على مسألة واحدة، وهي أثر التفرد على الحديث المعين، وفي حالة خاصة أيضا، وهي مسألة تفرد الثقة ومن في حكمه، كمن قيل فيه صدوق، أو لا بأس به، ونحو ذلك، وإن كنت أرى أن هذه الموضوعات المتعلقة بالتفرد هي كغيرها من مسائل العلوم، ينبغي دراستها بصفة متكاملة، للارتباط الشديد بينها، وتداخلها، غير ان في تجزئتها ـ مع الإشارة إلى ما بينها من ترابط في مناسبته ـ مصلحة من جهة أخرى، وهي الاختصار وتقريب العلوم والمعلومات، وتسهيل فهمها واستيعابها.
وقد جعلت هذا البحث المختصر في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: موقف أئمة النقد من تفرد الثقة.
المبحث الثاني: ضوابط النظر في تفرد الثقة.
المبحث الثالث: موقف المتأخرين من تفرد الثقة.
المبحث الأول
موقف أئمة النقد من تفرد الثقة
الناظر في كلام النقاد وتصرفاتهم حين وقوع التفرد يلاحظ بسهولة أن ذلك يسير في اتجاهين:
الاتجاه الأول: الرد بالتفرد، وتضعيف الإسناد به، سواء في كلامهم النظري، أو في تطبيقاته العملية.
فمن الأول ماورد عنهم من التحذير من الغرائب وتتبعها وكتابتها، ومما ورد عنهم من النص على غرائب الثقات قول أحمد (إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون هذا حديث غريب، أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، أو دخل عليه
حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو حديث ليس له إسناد، وإن كان قد روى شعبة وسفيان، فإذا سمعتهم يقولون هذا لاشيء فاعلم أنه حديث صحيح (1)
وقال أبو داود في وصف أحاديث السنن (والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس والفخر بها أنها مشاهير فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أهل العلم.
ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريباً شاذاً. فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد) (2)
ونقل ابن رجب عن أبي بكر البرديجي قوله في سياق ما إذا انفرد شعبة، أو سعيد بن أبي عروبة، أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (المنكرهو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة، أو عن التابعين، عن الصحابة، لايعرف ذلك الحديث ـ متن الحديث ـ إلا من طريق الذي رواه، فيكون منكرا)، ثم قال البرديجي (فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ، مثل حماد بن سلمة، وهمام، وأبان والأوزاعي ننظر في الحديث فإن كان يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه سلم، ولا من طريق أخرى عن أنس الا من رواية هذا الذي ذكرت لك، كان منكرا)
وقال أيضا (إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثا لا يصاب إلا عند الرجل الواحد ـ لم يضره أن لا يرويه غيره، إذا كان متن الحديث معروفا، ولا يكون منكرا، ولا معلولا) (3)
وتكلم الحاكم على الحديث الشاذ فقال (هو غير المعلول، فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث، أو وهم فيه راو ٍ، أو أرسله واحد فوصله واهم، فأما الشاذ فإنه الحديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة) (4)
وذكر الخليلي تعريف الشافعي وجماعة من أهل الحجاز للشاذ بأنه ما يرويه الثقات على لفظ واحد، ويرويه ثقة خلافه زائدا، أو ناقصا، ثم قال ((والذي عليه حفاظ الحديث: الشاذ: ما ليس له إلا إسناد يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة، فما كان من غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه، ولا يحتج به)) (5)
فهذه النصوص أقل ما يستفاد منها أن كبار النقاد يتوقفون في بعض ما يتفرد به الثقة، وربما صرحوا برده ونكارته، وعملهم بذلك يدل على ذلك أيضا، فلا يحصى ما استنكره النقاد مما يتفرد به الثقات، وربما احتاج الناقد منهم لإذهاب ما في نفسه من تفرد الراوي أن يحلفه على السماع، مع أنه ثقة متثبت، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم ((سمعت أبي وذكر حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته) قال شعبة استحلفت عبد الله بن دينار: هل سمعتها كذا من ابن عمر؟ فحلف لي، قال أبي: كان شعبة بصيرا بالحديث جدا، فهما فيه، كان إنما
¥