رغم أن (أبا عاصم النبيل) يروي عنه (محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة بن أبي رواد العتكى مولاهم، أبو جعفر البصرى) إلا أن الطبري لم يصرح ولو مرة واحدة في هذا الكم الهائل من الأسانيد التي أوردها في هذه السلسلة بأي نسبة أو أي شيء من متعلقات اسم (محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة) هذا، بينما نجده يذكر في صدر الكتاب وفي مواضع متتابعة تقريبا اسم (محمد بن عمرو بن العباس الباهلى) هكذا صرح به مرة واحدة على الأقل، وفي عشر مواضع أخرى ذكره باسم (محمد بن عمرو الباهلى) فاختصر اسم جده.
ومن المعلوم أن المنهج المعتمد في تعيين الرواة يقوم أساسا على استكشاف مسلك الإمام ومنهجه في إيراد أسماء شيوخه على وجه التحديد، لأنه هو الذي يصرح بأسمائهم ويصوغها وفقما يريد، بخلاف باقي الأسماء في الإسناد، حيث أن الأصل أن يوردها كما سمعها وتلقاها، وإن لم يخل الأمر من التصرف في ذلك أيضا في بعض الأحيان.
وإذا كان شيخ المصنف أحد رواة سلسلة متكررة أو إسناد دائر كما يقال، أو يروي بإسناده نسخة كتاب لأحد المتقدمين، فإن هذا أدعى لتغليب وجه واحد في تعيين هذا الراوي في هذه السلسلة، حتى ولو كان للإمام المصنف شيخ آخر أو أكثر يشتركون معه في نفس الاسم الأول حيث يجيء الراوي مهملا، أو يشتركون معه في نفس الاسم الأول واسم أبيه، حيث يجيء الراوي منسوبا لأبيه.
وهذا المنهج أقوى من مجرد إيراد أحد الأئمة أصحاب كتب التراجم مثل الحافظ المزي مثلاً لراوٍ واحد في تلاميذ شيخ شيخ المصنف وهو في هذا المثال: (أبو عاصم النبيل) حيث أورد المزي في تلاميذه:
(محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة بن أبي رواد العتكى)، ولم يورد (محمد بن عمرو بن العباس الباهلى)، وذلك له أسبابه، وأهمها:
أن المزي لم يشترط على نفسه استيعاب الشيوخ والتلاميذ لكل راو في كل ترجمة، ولا شك أن هذا فوق الطاقة، ولكنه التزم بأن يورد الشيوخ والتلاميذ لكل راو من رواة الكتب الستة - فيما عدا بعض المبهمات مثل: رجل، شيخ، امرأة ونحو ذلك - وذلك لأن عمله في "تهذيب الكمال" مرتبط جداً ومتلازم مع عمله في تصنيفه الآخر كتاب "تحفة الأشراف"، وكلاهما يخدم الآخر، وهو بحاجة ضرورية لتعيين جميع رواة الكتب الستة لكي يستطيع إيراد سلاسل الأسانيد في التحفة على الصواب
ومن هنا أمكن قيامه بتمييز الشيوخ والتلاميذ لكل راوٍ ما دامت أسانيدهم في الكتب الستة، وأما ما عدا الكتب الستة فلا يعدو أن يكون خدمة زائدة أو كنوع من الاستخراج من المراجع الأخرى، لكي لا يتوهم من ينظر في أي ترجمة من كتابه تهذيب الكمال أنه لا يروي عن فلان - ممن اسمه (محمد بن عمرو) مثلاً - إلا فلان، فكان عمله هذا تداركاً لما يمكن أن يَزِلَّ فيه من يتعرض لتعيين بعض الرواة في أي مرجع خارج الستة، فجزاه الله خيراً.
وفي الحقيقة فإن هذه المراجع التي اهتم الحافظ المزي بإيراد (بعض) وأكرر: (بعض) الرواة من أسانيدها في الشيوخ والتلاميذ زائدين على رواة الستة، فهي: مسند أحمد، مسند أبي يعلى، معاجم الطبراني الثلاثة، مسند البزار، وكذلك بعض رواة وقعوا في بعض المسانيد المشهورة مثل: مسند الروياني والشاشي.
فتلاحظ إذن أنه لم يتعرض لرواة كتب التفسير رغم تكرار كثير من أسانيدها مثل الحالة التي هي موضع هذا النقاش.
ولهذا فإنه يكون من المجازفة الاعتماد على كتاب المزي في تعيين إسناد أي حديث من خارج الستة، إلا أن تكون حاضرة في الذهن كل الضوابط والمعايير التي تجعل من كتاب المزي مادة جيدة تعطي انطباعاً أولياً عن اتجاهات تعيين الراوي، والاستئناس به في ذلك، ثم استحضار وتطبيق المنهج المعتمد في تعيين الرواة، وإجراء القواعد التي ينبغي حصرها مسبقاً ـ وهو ما نحاول القيام بجزءٍ منه في هذه المقالة ـ ثم اللجوء لتخريج الحديث كضابط من أهم الضوابط في تعيين الرواة تعيينا صحيحاً.
وهذا ـ كما تقدم بدءاً من القاعدة الأولى ـ مسلك للعلماء يظهر بكل وضوح في كتاب مثل "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" لابن حجر، وبالنظر في أساليبه في تعيين الرواة المشكلين، نرى أنه لا يستغني عن التخريج بحال سواء لروايات كتاب البخاري، أو لطرق الحديث نفسه في سائر المراجع، والله تعالى أعلم.
¥