وقبل أن ندعم هذا التوجيه في أحاديث الباب بما ذكره الإمام البخاري رحمه الله من أحاديث أخرى في كتب وأبواب سابقة. نذكر ما أحس به الكرماني نحو أحاديث الباب، فقد ذكر تعليقًا عليها يقول: واعلم أن الأمة طائفتان: القائلون بأن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، والقائلون بالعكس.
فالطائفة الأولى قالوا: ليس في الأحاديث ما يوجب أفضلية الفقراء؛ إذ حديث سهل يحتمل أن يكون خيرًا منه لفضيلة أخرى كالإسلام، وحديث خباب ليس فيه ما يدل على فضله فضلاً عن أفضليته؛ إذ المقصود منه أن يبقى منهم إلى حين فتح البلاد، ونالوا من الطيبات، خشوا أن يكون قد عجل لهم أجر طاعتهم بما نالوا منها، إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص.
وحديث عمران يحتمل أن يكون إخبارًا عن الواقع، كما يقول أكثر أهل الدنيا الفقراء، وأما تركه صلى الله عليه وسلم الأكل على الخوان؛ فلأنه لم يرض أن يستعمل من الطيبات، وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها.
ثم إنه معارض باستعاذته صلى الله عليه وسلم من الفقر، وبقوله تعالى: "ترك خيرًا": أي مالاً، وبقوله تعالى: (ووجدك عائلاً فأغنى) (الضحى:8)، وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في أكمل حالاته وهو موسر بما أفاء الله عليه، وبأن الغنى وصف للحق، والفقر وصف للخلق.
فأجابت الطائفة الأخرى بأن السياق يدل على الترجيح للفقراء؛ إذ الترجيح بالإسلام ونحوه لا حاجة له إلى البيان، وبأن من لم ينقص من أجره شيء في الدنيا يكون أفضل وأكثر ثوابًا عند الله يوم القيامة، وبأن الإيماء إلى أن علة دخول الجنة الفقر يشعر بأفضليته، وأما حكاية ترك النبي صلى الله عليه وسلم فهي دليل لنا لا علينا؛ إذ معناه أنه اختار الفقر، ليكون يوم القيامة ثوابه أكثر، وحديث الاستعاذة من الفقر معارض بحديث الاستعاذة من الغنى، وأما الآيتان فنحن لا ننكر أن المال خير، إنما النزاع في الأفضلية، لا في الفضل، أو المراد بالأغنياء في الآية الثانية غنى النفس، وأما قصة وفاته فلا نسلم الإيسار إذ كان ما أفاء الله صدقة، وكان درعه رهنا عند يهودي بقليل من الشعير، وأما غنى الله سبحانه وتعالى، فليس بمعنى الذي نحن فيه فليس من البحث"، والكرماني رحمه الله عرض قول الطائفتين دون أن يذكر ترجيحًا لقول طائفة على أخرى.
إلا أن قول الطائفة الثانية فيه نظر يجعل الطائفة الأولى أرجح في قولها لموافقة النصوص المجموعة في الموضوع.
فالسياق ليس فيه دلالة على ترجيح الفقراء بسبب الفقر، وكما سنرى في سائر النصوص، أن علة الفقر ليست هي المعتبرة وحدها، وإلا فما قيمة فقر بغير رضى، أو صبر أو طاعة؟
ثم إن فضل الله على عباده في الدنيا بالرزق الحلال والطيبات ليس معناه قلة في ذلك بالآخرة فدعاء المؤمنين: (ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار) (البقرة:201). ويقول الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نُفصل الآيات لقوم يعلمون) (الأعراف:32). وعلة دخول الجنة وجعلها في الفقر مجردًا لا دليل عليه، بل النصوص متضافرة بخلاف ذلك.
وأما اختيار النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سبق الإشارة إلى ارتباط ذلك بالقدوة لجميع الأمة فقيرها وغنيها، كيف يكون حاله مع الغنى، وكيف يكون حاله مع الفقر، والاستعاذة في الحالتين إنما هي استعاذة من الغنى المطغي، فالغنى مع الطغيان مذموم، كما أن الفقر غير مرغوب، وإذا كان الدافع - كما يرى أصحاب هذا القول - طلب المزيد من الحسنات، فإن الغني الشاكر، يستطيع أن يفعل بالمال الصالح ما لا يستطيعه الفقير، ولذلك جاء في الحديث (ذهب أهل الدثور بالأجور)، وسيأتي هذا الحديث بعد قليل.
فالأفضلية في نهاية الأمر، تكون بما يصحب الغنى أو الفقر من قرائن، وليس الأمر على إطلاق أفضلية الفقر.
والذي يدعم هذا التوجيه، تصنيف الإمام البخاري رحمه الله واختياره للأحاديث قبل هذا الباب، ويكفي أن نعرض بعض هذه الاختيارات.
¥