ففي كتاب الدعوات: باب "الدعاء بعد الصلاة" عن أبي هريرة رضي الله عنه قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم، قال: كيف ذاك، قال: صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم، وليست لنا أموال، قال: أفلا أخبركم بأمر تدركون من كان قبلكم، وتسبقون من جاء بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم إلا من جاء بمثله؛ تسبحون في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا ".
ففي هذا الحديث بيان لقيمة المال عندما يكون في أيد صالحة، فليس الغنى وحده سببًا للسبق، كما أن الفقر ليس سببًا للبعد؛ فالمرء يمكن بهذا التوجيه مع ابتلائه بالفقر أن يتدارك الأمر، وأن يدرك الأجر بالتسبيح والتحميد والتكبير دُبر كل صلاة -كما جاء في الحديث-.
وفي هذا جبْر لقلوب الفقراء، وأنه لا يفوتهم الأجر بسبب الفقر. فالدثور: هي الأموال الكثيرة.
وذهاب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم مقترن بالأعمال، وذكر منها، الصلاة، والجهاد، والزيادة التي تناسب حالهم، أنهم ينفقون من فضول أموالهم. وعُوض الفقراء -فضلاً من الله- بإمكانية اللحاق بهم بشيء يستطيعونه -كذلك- في هذا الذكر.
فالغنى والفقر -إذًا- ليسا مادة تفضيل بإطلاق، بل بما يصحبهما من قرائن، ولا شك أن من يملك أكثر يستطيع أن يعمل أكثر.
ولذلك فإن أهل الدثور يستطيعون -أيضًا- مشاركة الفقراء في الأذكار بعد الصلاة، ويكون ذلك من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء.
وفي الكتاب نفسه في باب "دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر، وبكثرة ماله" نجد حديث أنس رضي الله عنه قال: قالت أمي: يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له، قال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته ".
فأم أنس وهي الرميصاء الأنصارية المشهورة بأم سليم رضي الله عنها، تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعوا لأنس، فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بما هو محبوب للناس من تكثير المال، والولد، والبركة فيما يعطي الله سبحانه، يقول الكرماني: وقد استجاب الله دعاءه، فيه بحيث صار أكثر أصحابه مالاً فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين، وأكثر ولدًا، فكان يطوف بالبيت، ومعه أكثر من سبعين نفسًا من نسله.
ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم دليل على محبة هذا المدعو به عند الله وعند رسوله؛ عندما يكون لمثل أنس رضي الله عنه.
ومما يدعم كذلك وجهتنا في النظر إلى الغنى والفقر، وأن المدح والذم يرتبط بالقرائن، ما أورده الإمام البخاري في كتاب الدعوات - كذلك - وفي باب التعوذ من المأثم والمغرم.
فقد أخرج عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، والمأثم، والمغرم؛ ومن فتنة القبر، وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ".
فالاستعاذة في هذا من شر فتنة الغنى، ومن فتنة الفقر، فإذا كانت الفتنة في الغنى أو الفقر فهي مما يستعاذ بالله منها، وهذا تأكيد لهذه القرينة فيذم الغنى بها، وكذلك الفقر.
كما جعل الإمام البخاري رحمه الله باباً ترجم له بقوله: "الاستعاذة من فتنة الغنى" وأتبعه بباب آخر في "التعوذ من فتنة الفقر" أورد في الأول عن هشام عن أبيه عن خاله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ".
كما يورد في الباب الثاني حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد سبق ذكره وفيه: "وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر".
كما يكرر الإمام البخاري رحمه الله بابًا ذكره من قبل، ولكن برز في ترجمته -هنا- المعنى المراد فيقول "باب الدعاء بكثرة المال مع البركة". ويورد فيه حديث أم سليم رضي الله عنها ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه بكثرة المال والولد والبركة".
¥