وأما في كتاب الرقاق فقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لأبواب كثيرة تؤدي إلى المعنى نفسه، وهو التحذير من الاغترار بكثرة المال، وليس الذم المجرد له، وقد ذكرنا بعضها في المباحث السابقة، ونذكر ما لم يرد من قبل، فمن ذلك:
باب (مثل الدنيا في الآخرة) وقوله تعالى: (اعلموا أنّما الحياة الدنيا لعب ولهوُ وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكُفارَ نباتُه ثم يهيج فتراه مصفرًّا ثم يكون حطامًا، وفي الآخرة عذابٌ شديد ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ، وما الحياة الدنيا إلا متاعُ الغرو ر) (الحديد:20).
وفي باب "ما يُحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها" يورد أحاديث منها: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا).
فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه يُنْزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه فقال: أين السائل، قال: أنا. قال أبو سعيد: لقد حمدناه حين طلع ذلك، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرةٌ حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا، أو يُلم إلا آكلة الخضرة أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال حلوة من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونةُ هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع".
فالتحذير -هنا- من التنافس في التكاثر مع عدم الحذر، وكان هذا المعنى في بيان الخوف مما يخرج من بركات الأرض، ووصف هذا بأنه خير، وكان سؤال الصحابي: وهل يأتي الخير بالشر؛ أي هل تصير النعمة عقوبة، وكان سؤال السائل سببًا في هذه الإفادة، فكان السائل في موضع الحمد، بعد أن خشي الصحابة أن يكون صمت النبي صلى الله عليه وسلم دليلا على مذمة السؤال.
وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم: أن الخير لا يأتي إلا بالخير، وما قضى الله أن يكون خيرًا، لا بد أن يكون، والذي يخاف عليه هو التصرف فيه زائدًا على الكفاية، ولا يتعلق ذلك بالنعمة نفسها، وضرب لذلك المثل: "إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا". والمعنى: أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطا بالتخمة وانتفاخ البطن لكثرة الأكل، أو يقارب القتل، إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة، وتحصل به الكفاية المقتصدة؛ فإنه لا يضره.
وهكذا "المال" هو كنبات الربيع، مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه، فمنهم: من يستكثر منه، ويستغرق فيه، غير صارف له في وجوهه، فهذا يهلكه، أو يقارب إهلاكه.
ومنهم: من يقتصد فيه فلا يأخذ إلا يسيرًا، وإن أخذ كثيرًا فرقه في وجوهه، كما تثلط الدابة فهذا لا يضره.
فمن يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع.
قال الأزهري: فيه مثلان:
أحدهما: للمكثر من الجمع، المانع من الحق، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا "؛ لأن الربيع ينبت أجرار البقول، فتستكثر منه الدابة حتى تهلك.
والثاني: للمقتصد، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا آكلة الخضر " لأن الخضر ليس من أجرار البقول.
وقال عياض: ضرب صلى الله عليه وسلم مثلاً بحالتي المقتصد والمكثر، فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: أنتم تقولون: إن نبات الربيع خير، وبه قوام الحيوان، وليس هو كذلك مطلقًا، بل منه ما يقتل، أو يقارب القتل، فحالة المبطون المتخوم، كحالة من يجمع المال، ولا يصرفه في وجوهه، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الاعتدال، والتوسط في الجمع أحسن.
ثم ضرب مثلاً لمن ينفعه إكثاره، وهو التشبيه بآكلة الخضر وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه الشرعية. ووجه الشبه: أن هذه الدابة تأكل من الخضر حتى تمتلئ خاصرتها ثم تثلط. وهكذا من يجمعه ثم يصرفه والله أعلم.
وفي باب (ما يتقى من فتنة المال) وقوله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) (الأنفال: 28) يورد الإمام البخاري رحمه الله ما يؤكد أن الذم لا يكون إلا بالخروج عن الحق مع المال، فإذا كان الأصل في علاقة الإنسان بالمال أن يستخدمه، وأن ينتفع به، فإن المذمة عند انقلاب الحال، فيستعبد المال صاحبه، وعندئذ تكون تعاسته بالمال.
¥