فيروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط لم يرض ".
والتعاسة بمعنى الهلاك والسقوط، وعبد الدينار: أي خادمه وطالبه؛ كأنه عبد له، والقطيفة هي الدثار المخمل، والخميصة هي الكساء الأسود المربع، ومعنى ذلك أن الفتنة بالمال أخذت عليه حواسه، وصار خادمًا للمال في صورته النقدية، أو في مظاهره الأخرى ومنها الملبوسات.
وفي ظل هذه العبودية للمال يهلك الإنسان نفسه، حيث لا يرضى إن لم يعط كما في هذا الحديث، وإن أعطي كذلك لم يرض، ولم يشبع، كما سيأتي في الحديث الآتي من الباب نفسه.
والذي رواه البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ".
كما يبين البخاري رحمه الله موقف صحابي جليل كعمر رضي الله عنه من المال وزينته. وأن الإنسان لا يستطيع إلا أن يفرح بما زينه الله لنا، والمحمود من يجعل الفرحة صحيحة بالتعامل الصحيح مع المال، ويدعو الله أن يحقق له ذلك.
فيروى في باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا المال خضرة حلوة "، وقال الله تعالى: (زُين للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا) قال عمر: "اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه".
وفي ارتباط ما يشعر بذم الإكثار بالقرائن من الأعمال نجد - كذلك - في كتاب "الرقاق" باب " المكثرون هم المقلون" وقوله تعالى: (من كان يُريد الحياة الدنيا وزينتها نُوفّ إليهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يُبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) (هود:15،16). يروي الإمام البخاري رحمه الله حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟. قلت: أبو ذر جعلني الله فداءك، قال: يا أبا ذر تَعَالَه، قال: فمشيت معه ساعة فقال: إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرًا فنفح فيه يمينه وشماله، وبين يديه، ووراءه، وعمل فيه خيرًا… ".
بل نجد من روايات البخاري في كتاب الرقاق باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا" ما يؤكد أنه لا مذمة في الغنى وحده، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكره، أو يُشعر بمذمة من يكون له مثل أحد ذهبًا، وهذا مال كثير، ما دام سيفعل مثلما جاء في الحديث الذي يرويه أبو ذر- أيضًا- رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة فاستقبلنا أُحُدٌ، فقال يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينارُ، إلا شيئًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى، فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله، ومن خلفه، وقليل ما هم… ".
ولا يخفى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التزام ما يأمر الله به نحو هذا المال، ومداومة التذكير والتحذير من الفتنة بالمال عند كثرته وتضييع ما يرتبط به من حقوق الله في الزكاة والصدقات، وفي حقوق العباد من ديون، فالغنى -إذن- ما دام بحقه في كل مجالاته، وما دام مقترنًا بما لا يخرجه عن حقه، فهو في موضع المحمدة وليس المذمة.
ولذلك يجمع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للأمة بين الغنى الحسي المادي، والغنى النفسي، الذي يعين على صيانة الحق مع الغنى، ويجعل الإمام البخاري رحمه الله بابًا لذلك في كتاب الرقاق بعنوان: "الغنى غنى النفس" وقول الله تعالى: (أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين) إلى قوله تعالى: (من دون ذلك هُم لها عاملون) (المؤمنون:55 - 63) قال ابن عيينة: لم يعملوها، لا بد من أن يعملوها":
¥