تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يقول الكرماني: غرض البخاري من ذكر الآية أن المال مطلقًا ليس خيرًا، وأما كلام سفيان بن عيينة، فهو تفسير لقوله تعالى: "ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ". يروي البخاري رحمه الله في هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".

والعرض -بفتح الراء- حطام الدنيا، وبالسكون: المتاع، يعني: ليس الغنى الحقيقي المعتبر هو من كثرة المال، بل هو من استغناء النفس وعدم الحرص على الدنيا، ولهذا ترى كثيرًا من المتموّلين فقير النفس مجتهدًا في الزيادة، فهو لشدة شرهه، وشدة حرصه على جمعه كأنه فقير، وأما غنى النفس فهو من باب الرضا بقضاء الله تعالى لعلمه أن ما عند الله لا ينفد وهو خير له؛ لأن ما قضى به لأوليائه فهو الخيار.

وبعد تتبعنا لأبواب الإمام البخاري، فيما يتصل بالغنى والفقرة، نرى من حسن صنيع البخاري رحمه الله، أن يورد الأحاديث في أبواب متعددة مقترنة بالترجمة التي تعين على فهم المراد منها، إلا أنه ينبغي أن تجمع هذه الروايات في الموضوع الواحد حتى يتسق الفهم لها.

ظهر لنا ذلك من إمساكنا في بداية الأمر بباب "فضل الفقر" وتبين لنا -بعد الجمع- المراد من هذا، وأنه ليس من قبيل المدح المطلق للفقر، وإنما يقترن بالفقر أحوال، تجعل المبتلى به في موضع الفضل، والحال نفسه مع الغنى، فيمكن أن نقول: "فضل الغنى" ولكن ليس بإطلاق -أيضًا- أي إذا اقترن بالغنى ما يجعل المبتلى به في موضع الحمد.

وهكذا يزول ما يشعر بالتعارض بين الأحاديث عند جمعها، والنظر فيها مجتمعة.

وقد قدمنا ما يدعم هذا في صحيح الإمام البخاري رحمه الله.

وأما ما جاء في كتب السنة الأخرى فكثير، وفيه ما يشعر بمدح الفقراء، وذم الأغنياء والبعد عنهم.

وهذا يحتاج إلى تدبر النصوص الواردة في ذلك؛ لأن كل رواية فيها ما ينسجم مع النتيجة التي توصلنا إليها من تتبع أبواب البخاري رحمه الله، فإذا ما جمعت زاد الأمر وضوحًا.

فمثلاً توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالكفاف، وعدم مجالسة الأغنياء، من باب استمرار القدوة في بيت النبوة، والذي يشهد المال الكثير، ويتحقق فيه معنى الغنى، ولكن لا يبقي شيئًا من المال، لأنه يجد طريقه إلى الناس، ويبقى البيت قدوة للفقراء في الصبر والرضى، وقد وجه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كُنتن تُردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرِّحكن سراحًا جميلاً * وإن كُنتن تُرِدن اللهَ ورسولهَ والدارَ الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا) (الأحزاب:28 - 29). واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وكن على هذه الحالة التي ترضي الله ورسوله.

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن سرك اللحوق بي، فليكفك من الدنيا كزاد الراكب. وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوبًا حتى تُرقِّعيه " أخرجه الترمذي، وزاد رزين: قال عروة: فما كانت عائشة تستجدّ ثوبًا حتى ترقع ثوبها وتنكسه، ولقد جاءها يومًا من عند معاوية ثمانون ألفًا فما أمسى عندها درهم، فقالت جاريتها: فهلاً اشتريت لنا منه بدرهم لحما؟ فقالت: لو ذكرتيني لفعلت".

فهذا صنيع بيت النبوة الذي يملك، ولا يبقي لنفسه شيئًا مما يملك، بل يخرجه للمحتاجين.

وهذا ما اختاره الرسول الكريم لنفسه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا، وفي أخرى "كفافًا" أخرجه الشيخان والترمذي. و "الكفاف" الذي لا يفضل عن الحاجة.

وهذا يفسر لنا معنى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي رواها أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أحييني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. قالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء أربعين خريفًا. يا عائشة! لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم، فإن الله يقربك يوم القيامة ". والمراد بالخريف السنة، وفي حديث آخر خمسمائة عام. والجمع بينهما: أن المراد بالأربعين تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص، وبالخمسمائة تقدم الفقير الزاهد على الغني

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير