يقول أبو بكر الحازمي: ثم لما استقرينا طرق الحديث أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في مبدأ الإسلام، واستمر ذلك إلى بعد الهجرة بزمان، ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك فأجابه عروة أن عائشة رضي الله عنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل".
وفي رواية الترمذي عن أبي بن كعب: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها".
وقد يكون تحديد السابق واللاحق استنباطًا من فهم الروايات.
مثال ذلك ما ورد في أحاديث النهي عن الكتابة والأمر بها، فلدينا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النا ر".
فهذا هو الحديث الوحيد الذي يتضمن النهي عن الكتابة، أما ما ورد وفيه أمر بالكتابة فكثير منه:
- ما ورد عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق ".
ويشهد الصحابي أبو هريرة رضي الله عنه لعبد الله بن عمرو بأنه استمر في الكتابة، فيقول: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب".
- رورى البخاري ومسلم وغيرهما أنه "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خطب فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي فلان" قال ابن حجر هو أبو شاه، وقيل للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي، قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وروى البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتد وجعه قال: "ائتوني بكتاب، اكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده…".
فهذه أحاديث الأمر بالكتابة، وبالنظر إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو الوحيد في النهي - كما أشرنا - قد ذكر فيه ما يعين على تحديد السابق منها واللاحق، فقد ذكر النهي مقترنًا بذكر القرآن الكريم.
فالنهي - في الحديث - عن الكتابة مع القرآن في صحيفة واحدة، أو مطلقًا خشية وقوع الخلط واللبس بين القرآن الكريم والحديث الشريف.
وخشية الخلط بين الأسلوبين لا تكون إلا في بداية الأمر، فإذا ألف الناس أسلوب القرآن الكريم، وأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم أمنوا من الوقوع في الخلط، وعلى ذلك فإن مضمون الحديث حدد لنا السابق واللاحق في أحاديث الأمر بالكتابة والنهي عنها، فالنهي أولاً، والأمر بالكتابة آخرًا.
وتكون أحاديث الأمر بالكتابة قد نسخت حديث النهي عنها.
الترجيح
فإذا تعذر الجمع بين الروايات، أو كان متكلفًا، وإذا لم نستطع إعمال قاعدة النسخ لتعذر تحديد السابق منها واللاحق صرنا إلى الترجيح، وللترجيح وجوه كثيرة تتسع باتساع علم المرجّح، وحسن النظر إلى المرجحات وتطبيقها على الروايات، ولذلك ليس للمرجحات حصر دقيق فقد عدّ الحازمي منها في كتابه "الاعتبار" خمسين وجهًا ثم قال: فهذا القدر كاف في ذكر الترجيحات، وثم وجوه كثيرة أضربنا عن ذكرها كيلا يطول به هذا المختصر. وفي تدريب الراوي (وهو يتكلم عن ترجيحات الحازمي): ووصلها غيره إلى أكثر من مائة، كما استوفى ذلك العراقي في نكته، وقد رأيتها منقسمة إلى سبعة أقسام:
الأول: الترجيح بحال الراوي:
وذلك بوجوه: أحدها كثرة الرواة؛ لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل.
ثانيها: قلة الوسائط، أي علو الإسناد حيث الرجال الثقات؛ لأن احتمال الكذب والوهم فيه أقل.
ثالثها: فقه الراوي؛ سواء كان الحديث مرويًا بالمعنى أو اللفظ؛ لأن الفقيه إذا سمع ما يمتنع حمْلُه على ظاهره بحث عنه حتى يطّلع على ما يزول به الإشكال، بخلاف العامي.
رابعها: علمه بالنحو؛ لأن العالم به يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل ما لا يتمكن منه غيره.
خامسها: علمه باللغة.
سادسها: حفظه، بخلاف من يعتمد على كتابه.
¥