فمثلاً يذكر الحديث الذي أخرجه مسلم، في كتاب المناقب، من صحيحه، عن عائشة رضي الله عنهما، وكذلك عن أنس رضي الله عنه: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وقد اتخذه "دعاة العلمانية" تكأةً للفصل بين الدنيا والدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكَلَ إلى الناس أمر دنياهم، فهم أعلم بها. وهذا خطأ في الفهم، يُردّه هذا الموقف التعليمي التربوي، الذي يُفهم من قصة هذا الحديث، وسبب وروده، وهي قصة تأبير النخل.
ومع ذكره أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي في ذلك؛ فإن النتيجة من قصة التأبير، تخاطب المسلمين في الأمور المتغيرة، والتي تخضع للخبرة، والتجربة، والتحسين المستمر، بما يفتح الله سبحانه به على عباده في كل زمان، مع الاسترشاد بما جعل الله سبحانه لعباده من الأصول العامة، التي ترشد هذه المتغيرات، فشأن المسلم في هذا، أن يأخذ بأحدث ما وصلت إليه الخبرة، والتجربة، والنتيجة العلمية، ولا يقول: كان الشأن في ذلك على عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو قال فيها بكذا، ما لم يكن هذا القول وحيًا مُلزمًا، وهذا - عادة - يكون في الجوانب الثابتة من أمور العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والأخبار، وأصول المعاملات، التي ترشّد ما يكون فيها من متغيرات.
والمثال الآخر، يذكر فيه الحديث الذي رواه أبو داود في الجهاد، ورواه الترمذي في السير: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين - لا تتراءى نارُهما"، والفهم الخطأ لهذا الحديث، تحريم الإقامة في بلاد غير المسلمين بصفة عامة، مع تعدد الحاجة إلى ذلك في عصرنا، للتعلم، وللتداوي، وللعمل، وللتجارة، وللسفارة، ولغير ذلك.
ويصحح هذا الفهم، بمعرفة سبب ورود الحديث، والذي جاء فيه: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية) وقال: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تتراءى نارُهم ا".
فجعل لهم نصف الدّية وهم مسلمون؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم، وأسقطوا نصف حقهم، بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله.
وعلل الإمام الخطابي إسقاط نصف الدية، بأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه، وجناية غيره، فسقطت حصة جنايته من الدية.
فقوله عليه الصلاة والسلام: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، أي برئ من دمه إذا قُتل؛ لأنه عرّض نفسه لذلك بإقامته بين هؤلاء المحاربين لدولة الإسلام.
أسباب الورود عند الإمام البلقيني
وتتبع النماذج التي قدمها الإمام البلقيني، وتحليلها، يؤكد لنا ضرورة العناية بالاستقراء الشامل لكل روايات السنة المطهرة، للوقوف على علاقة النصوص بأسبابها.
ويبدأ حديثه عن النوع التاسع والستين من أنواع علوم الحديث، "معرفة أسباب الحديث"، بعبارة ابن دقيق العيد، في شرح العمدة، في الكلام على حديث "إنما الأعمال بالنيات".
ويفيد كلام ابن دقيق العيد، أن التصنيف في أسباب الحديث كان متأخرًا، وهذا قد يعود إلى قرب عهد الرواة بمعرفة الأسباب والملابسات، التي قيلت فيها الأحاديث، واعتبار أن هذه المعرفة قد تجد طريقها في مباحث التاريخ والسير، إلا أنه قد لفت انتباهنا في الربط بين أسباب الحديث، وأسباب النزول للكتاب العزيز، وكما أن معرفة أسباب النزول تعين على الفهم الصحيح لبعض الآيات، فكذلك الحال في كثير من الأحاديث النبوية، التي يتوجه فيها المعنى الصحيح وجهته الصحيحة، بمعرفة أسباب ورودها، وهذا ما دفع المتأخرين إلى التصنيف في أسباب الحديث، كما صُنِّف في أسباب النزول للقرآن الكريم، ولما أحب ابن دقيق العيد أن يعمل في هذا المجال، فقد وجد أن ما ورد في ذلك من الكتابات شيءٌ يسيرٌ، وأن الأمر يحتاج إلى تتبعٍ، وإلى نظر في الأحاديث؛ فقد يكون السبب موجودًا في الحديث نفسه، وهذا أمرُ يسيرُ، يحدده راوي الحديث أو القارئ له، ولكن الأصعب في ذلك أن يكون الحديث مجردًا من سببه، ويحتاج إلى تتبع هذا السبب في روايات أخرى، وفي كتب أخرى، وعند رواة آخرين.
¥