ومن ذلك، حديث: "الخراج بالضمان "، فقد رواه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله، وأصحاب السنن، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ وحسنه "الترمذي" من طريق مخلد بن خُفاف، عن عروة عن عائشة، وصححه "ابن حبان" من هذا الطريق.
ورواه "الترمذي" من حديث عمرو بن علي المقدمي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث هشام، واستغربه "البخاري" من حديث عمرو بن علي، وللحديث طرق أخرى.
وقد ذكر سبب هذا الحديث في بعض طرقه.
فذكر الإمام "الشافعي" رحمه الله، من رواية مسلم بن خالد الزنجي، فقال: ولا أحسب، بل لا أشك -إن شاء الله- أن مسلمًا نصّ الحديث، (ومعنى "نصّ الحديث":رفعه، ومسلم -هنا- هو ابن خالد الزنجي).
فذكر أن رجلاً ابتاع عبدًا فاستعمله، ثم ظهر منه على عيب، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعيب، فقال المقضيّ عليه؛ قد استعمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان".
(وفسر ابن الأثير الخراج: ما يحصل من غلة العين المبتاعة، وتقديره: الخراج مستحق بالضمان، أي سببه).
والذي ذكره الإمام الشافعي، قد أسنده "أبو داود"، من حديث مسلم بن خالد على الجزم، فقال: ثنا إبراهيم بن مروان، قال: ثنا أبي، ثنا مسلم بن خالد الزنجي، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهما، أن رجلاً ابتاع عبدًا، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبًا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" .. ورواه ابن ماجه من حديث شيخه هشام بن عمار، قال: "ثنا مسلم بن خالد، ثنا هشام" فذكره.
قال "أبو داود" عقب روايته الحديث: هذا إسناد ليس بذاك. وإنما قال "أبو داود" هذا من أجل مسلم بن خالد الزنجي، ومسلم بن خالد قد وثقه يحيى بن معين في رواية عباس الدوري والدارمي، ولم ينفرد برواية الحديث عن هشام، فقد رواه عمر بن علي المقدمي عن هشام - كما سبق - وتابعه على ذلك جرير، وإن كان جرير قد نُسب فيه إلى التدليس.
ولم ينفرد "مسلم بن خالد" بذكر السبب، فقد جاء ذكر السبب من غير رواية مسلم بن خالد، قال الشافعي رحمه الله: "أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف قال: ابتعت غلامًا، فاستغللتُه، ثم ظهرت فيه علي عيب، فخاصمته فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى له بردّه، وقضى عليّ بردّ غلّته، فأتيت عروة بن الزبير فأخبرته، فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، فعجلت إلى عمر رحمه الله، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن عبد العزيز: فما أيسر عليّ من قضاء قضيته - والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغني سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأرد قضاء عمر، وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به له".
وقد رواه "أبو داود الطيالسي"، عن ابن أبي ذئب بمعنى رواية "الشافعي"، ورواية الشافعي أتم، وذكر السبب يتبين به الفقه في المسألة.
وقد جاء في سنن "أبي داود" أمر آخر، يفهم منه تعدي ذلك إلى الغاصب.
قال "أبو داود": ثنا محمد بن خالد، ثنا الفريابي، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن، عن مخلد الغفاري، قال: كان بيني وبين أناس شركة في عبد، فاكتريته، وبعضنا غائب، فأغلّ عليّ غلّة خاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة، فأمرني أن أرد الغلة، فأتيت عروة بن الزبير فحدثته، فأتاه عروة فحدثه عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخراج بالضمان".
وقد أخذ بهذا العموم جماعة من العلماء من المدنيين والكوفيين، والأخذ بالسبب المرفوع أقوى، لأمور ليس هذا موضع بسطها.
هكذا يحكي الإمام البلقيني وهو يورد حديث "الخراج بالضمان"، ويتتبع أسباب وروده بالطرق المتعددة، وقد بيّن لنا بهذا التتبع أن سبب ورود الحديث قد يرد في طريق ولا يكون في غيره.
ولهذا فإن التتبع، هو الذي يحقق لنا الوصول إلى سبب الورود.
وأن بعض الطرق قد يكون أقوى من بعض، وقد يكون بعضها واهياً لا يعتد به.
¥