والسبب: أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم عن أبي قتادة، عن أبيه، قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ سمع جَلَبَةَ رجالٍ، فلما صلى دعاهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله استعجلنا إلى الصلاة، قال: "فلا تفعلوا. إذا إتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما سبقكم فأتموا".
ولكن إذا كان البلقيني قد جعل حديث معاذ سببًا لورود الحديث: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينةُ، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا"، فإن السيوطي قد جعله سببًا لحديث آخر أخرجه الترمذي، عن عليّ وعن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمامُ على حال، فليصنع كما يصنع الإمام".
وهذا يدل على أن تحديد السبب، أمرُ اجتهادي، وأن السبب قد يصلح لأكثر من رواية، وأن السبب قد يتعدد.
وترك حديث: "ما حدثكم أهل الكتاب…".
وذكر حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان"، وأورد ما ذكره البلقيني، وزاد من اختياره أسبابًا أخرى، منها: ما أخرجه أحمد، عن عروة بن الزبير، قال: قال زيد بن ثابت: "يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه، وإنما أتى رجلان قد اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان هذا شأنكم، فلا تكروا المزارع، فسمع رافع قوله: لا تُكروا المزارع".
وذكر السيوطي كذلك، حديث زيد بن ثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رخّص في العرايا.
ومع هذا الاختيار، الذي اتبعه السيوطي مع من سبقه، إضافة عظيمة لأحاديث أخرى بأسباب مستقلة بلغت جميعها ثمانية وتسعين حديثًا (98)، وأربعة وسبعين ومائتي سبب. صنفها على أبواب الطهارة، والصلاة، والجنائز، والصيام، والحج، والبيع، النكاح، والجنايات، والأضحية، والأطعمة، والأدب.
ونستطيع أن نقول: إن صنيع الإمام السيوطي، قد أرسى دعائم هذا النوع العظيم من أنواع علوم الحديث، في كثرة العدد، وتنوع الموضوعات، وتتبع الأسباب خارج الحديث.
وفتح الطريق أمام السالكين لهذا النوع الجدير ببذل المزيد من الجهود فيه.
ابن حمزة وأسباب الورود
نجد ابن حمزة الحسيني، الحنفي، الدمشقي، بعد ذلك قد استوعب المنهج، والأمثلة التي قدمها البلقيني، وقدمها السيوطي، ويضيف إضافات تغرس اليقين في إمكانية استيعاب كتب السنة جميعها، في اختيار الأسباب، التي تُربط بأحاديثها.
لقد انطلق ابن حمزة في عمله، من القاعدة السابقة، التي أرساها البلقيني والسيوطي، حتى نجد التطابق في استعماله لعبارات السابقة في هذا الموضوع. فمعرفة الأسباب عنده، من أجلّ أنواع علوم الحديث.
والذين ألفوا فيه، قد ذكرهم - كما سبق - فقال: "وقد ألف فيها أبو حفص العكبري كتابًا، وذكر الحافظ ابن حجر أنه وقف منه على انتخاب، ولما لم أظفر في عصرنا بمؤلف مفرد في هذا الباب، غير أوائل تأليفٍ شَرع فيه الحافظ السيوطي، ورتبه على الأبواب، فذكر فيه نحو مائة حديث .. واخترمته المنيةُ قبل إتمام الكتاب، سنح لي أن أجمع في ذلك كتابًا، تقربه عيون الطلاب، فرتبته على الحروف والسّنن المعروف، وأضفت له تتمات تمس الحاجة إليها، وتحقيقات يعوّل عليها، وسميته: "البيان والتعريف في أسباب الحديث الشريف .. ". وأسباب الورود عنده كأسباب نزول القرآن الكريم. والحديث الشريف عنده - في الورود 0 على قسمين: ما له سبب قيل لأجله، وما لا سبب له. والسبب عنده - كذلك - قد يذكر في الحديث، وقد لا يذكر السبب في الحديث، أو يذكر في بعض طرقه، فهو الذي ينبغي الاعتناءُ به، ويورد الأمثلة ذاتها.
ويضيف ما أفاده الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، من أن سبب الحديث، يأتي تارة في عصر النبوة، وتارة بعدها، وتارة يأتي بالأمرين .. ويقصد بما يكون بعد عصر النبوة، ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم، فقد حفظوا الأقوال والأفعال، وحافظوا على الأطوار والأحوال، فيكون السبب في الورود عنهم، مبينًا لما لم يعلم سببه عن النبي صلى الله عليه وسلم. كما عُني في منهجه بتخريج أحاديثه من المعاجم والمسانيد، والكتب الستة، وابتدأ بحديث "إنما الأعمال بالنيات".
¥