تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

استبانت إذن ضرورة الوصل بين الحديث والفقه، وأن أحدهما لا يستغني عن الآخر في درك بغيته، وتحصيل ثمرته؛ فالأول ـ كما قال الخطابي ـ: بمنزلة الأساس الذي لا يقوم بدون بناء، والثاني: بمنزلة العمارة التي يخرب بدونها الأساس.

ولا شك أن الوصل بينهما لتجديد الخطاب الفقهي، والنهوض به يستقيم من خلال المسالك الآتية:

أ ـ التدليل عوض التجريد:

التجريد منهج في كتابة الفقه، يقوم على ذكر الفروع عارية عن أدلتها ومآخذها، وغالباً ما يُتوسل بهذا المنهج في صياغة المتون الفقهية المختصرة التي يُقتصر فيها على الإشارة إلى مشهور المذهب، والراجح فيه دون تدليل أو تعليل، ومنها (مختصر القدوري وبداية المبتدي) للمرغيناني عند الحنفية، والوجيز للغزالي، ومتن الغاية، والتقريب لأبي شجاع الأصفهاني عند الشافعية، والرسالة لابن أبي زيد، ومختصر خليل عند المالكية، ومختصر الخرقي والمقنع للموفق بن قدامة عند الحنابلة.

وإذا كان المنهج التجريدي مستساغاً عند أصحابه، معضّداً ـ في وقته ـ بمقتضيات مذهبية وتعليمية فإن من آثار الصحوة الإسلامية اليوم حثّ طلاب العلم على طلب الفقه بدليله، وقبول الحكم بتعليله؛ مما يستلزم ربط المتون المجرّدة بأدلتها التفصيلية، حتى يتميّز منها الصحيح المتعبَّد به، والسقيم المردود عند أهل النقد والخبرة.

ونجد شبيهاً لهذه الدعوة أو تأصيلاً لها في كلام ابن القيم عن ضرورة تعزيز الفتوى بالدليل، ونسوقه هنا ـ على طوله ـ لأهميته، يقول: (عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أوْلى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل؛ فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله، وإجماع المسلمين، وأقوال الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والقياس الصحيح عيباً؟ وهل ذكر قول الله ورسوله إلا طراز (*) الفتوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به؛ فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه، وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم.

وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال، ويشبّهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجّة؛ فما الظنّ بمن ليس قوله بحجة ولا يجب الأخذ به؟ وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله، وهيهات أن يسوغ حجّة، وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله كذا، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعل كذا، فيشفي السائل، ويبلغ القائل، وهذا كثير جدّاً في فتاويهم لمن تأملها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم، ثم يستدلّ عليه، وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل.

ثم طال الأمد، وبَعُدَ العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمّه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى، والله المستعان) (1).

وهذا قول متين في الدفاع عن المنهج الاستدلالي في الفقه، ويمكن تفكيكه إلى أربعة عناصر أساسية:

أ ـ الاستدلال بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح هو روح الفقه وجماله، وطراز الفتاوى وحليتها.

ب ـ من ثمرات الاستدلال: إضفاء الشرعية على كلام الفقيه أو المفتي، وإقامة الحجّة على طالب الفقه، أو المستفتي، وإبراء العهدة من الإفتاء، أو الدعوة بغير علم.

ج ـ بيان جذور المنهج الاستدلالي في السنة، وفقه الصحابة والتابعين والأئمة.

د ـ شيوع المنهج التجريدي في زمن انقراض العلم، وتقلّص ظله، وفتور الهمم وتقاعسها، وقد بلغ من تجذّر هذا المنهج، واستئثاره بالحظوة الفقهية حدّاً أصبح معه الاستدلال مسلكاً مذموماً ومنهجاً مستنكراً.

وفي كلام ابن القيم من الصدق والدقة في وصف الواقع وبيان الحال شيء كبير؛ إذ يبدو أن الاستدلال أصبح إصراً على الفقه، وأغلالاً في أعناق الفقهاء، فجرّدوا كتبهم من كل دليل أو مأخذ، واقتصروا على ذكر قول فلان ورأي علان، ممن لا يقام لهم وزن في مقابل كلام الله ورسوله، وبين أيدينا من كتب الفقه، والنوازل، والوثائق ما يشهد لهذا المنزع التجريدي المصادم لمناهج المحققين من العلماء.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير