وعليه فالمراد بالحديث ما ورد بصيغة الخبر، لأنه هو الذي يكون له واقع، بخلاف ما كان بصيغة الإنشاء، كالأوامر والنواهي، والتشريع بصفة عامة، فإنه لا يمكن أن يكون الواقع موافقاً لها أو مخالفاً، على جهة التصديق أو التكذيب، لأنها إما أحكام وضعية وواقعها التسليم، وإما أحكام تكليفية، وواقعها الامتثال.
ومن هنا يتبين أن البحث محصور فيما يراد به الإخبار، سواء ورد بصيغة الخبر، أو بصيغة الإنشاء، ويستفاد منه معنى الخبر، بخلاف ما أريد به التشريع، سواء ورد بصيغة الإنشاء أو بصيغة الخبر فليس داخلاً في نطاق البحث.
وعليه فإن نطاق العلاقة بين الواقع والحكم على الحديث نطاق ضيق، ومعظم الشريعة الإسلامية بمعزل عنه، لأن القصد من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو التشريع، ومن ثم كانت أغلب الشريعة الإسلامية أحكاماً، إما وضعية وإما تكليفية.
فانحصر نطاق البحث في الإخبار عما مضى وقوعه، بخلاف المغيبات ما لم تقع، فإذا وقعت كانت داخلة في نطاق البحث، لأنه أصبح لها واقع يمكن النظر في تصديقه للأخبار أو تكذيبه لها.
والأحاديث عن المغيبات قسمان؛ إما أحاديث مُثْبِتة، وإما أحاديث نافية، فالقسم الأول: وهو الأحاديث المثبتة، كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة"، ومن هذا القسم ما كان منفياً إلى غاية، أو أبطل النفي بالاستثناء كالأحاديث التي فيها لا تقوم الساعة حتى يكون كذا وكذا فإنها أحاديث مثبتة في المعنى، كأنه قال يكون كذا وكذا قبل قيام الساعة، فهذا القسم من الأحاديث عن المغيبات لا يمكن معارضته بالواقع أو الادعاء أن الواقع يخالفه، لأن ذلك الادعاء لا يصح إلا بانتهاء وقت الدنيا وقيام الساعة قبل حدوث ما ذكر فيها، وهذا ما لا يسع أحداً قوله.
وأما القسم الثاني: وهو الأحاديث النافية، وهي التي تنفي وقوع شيء معين مطلقاً، كحديث الصحيحين: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، ... "، فمثل هذا الحديث إنما يصح الادعاء بأنها تخالف الواقع بإثبات أن المنفي المعين تحقق، كإثبات أن العراق قد حكمها من تسمى بكسرى بعد هلاكه، أو أن الشام قد حكمها من تسمى بقيصر بعد هلاكه.
المطلب الأول: رد
الحديث بسبب مخالفته للواقع
هذا المطلب ليس المقصود به رد الحديث الذي لا يصح إسناداً لأجل مخالفة الواقع، فإن الحديث المردود إسناداً لا تزيده مخالفة الواقع له إلا رداً، وإنما المقصود به الأحاديث المقبولة من حيث الإسناد، عندما تكون مخالفة للواقع، ولتحرير هذا المقام لا بد من بيان مسألتين؛ الأولى: اشتراط عدم مخالفة الواقع للحديث، والثانية: تحقق مخالفة الواقع للحديث، فأقول:
المسألة الأولى: اشتراط عدم
مخالفة الواقع للحديث
إن الناظر في هذه المسألة أعني مسألة مخالفة الواقع للحديث يمكن أن يجزم لأول وهلة بأن عدم مخالفة الواقع للحديث ليس شرطاً في قبوله، اعتماداً منه على ما توارد عليه أهل العلم من اشتراطهم شروطاً للحديث المقبول ليس من ضمنها عدم مخالفة الواقع، وهي خمسة شروط للحديث المقبول، أولها الاتصال، وثانيها عدالة الراوي، وثالثها الضبط، ورابعها انتفاء الشذوذ، وخامسها انتفاء العلة.
والملاحظ أن هذه الشروط ثلاثة منها إيجابية، أي مطلوب تحققها للقول بصحة الحديث، وشرطان منها سلبيان أي مطلوب عدم تحقق المنفي فيهما، والمنفي فيهما - في الحقيقة - مانعان، فالشذوذ مانع يلزم انتفاؤه وكذا العلة، وإلا كان الحديث غير مقبول، ولم تذكر مخالفة الواقع كمانع، للقول بقبول الحديث.
ومن هنا يمكن للناظر في هذه الشروط أن يدعي عدم وجود علاقة - عند أهل هذه الشروط - بين مخالفة الواقع والحكم على الحديث، وإلا لكان ذكره ضمن شروط الحديث المقبول متحتماً.
إلا أننا نجد بعض أهل العلم ينبه على مسألة عدم مخالفة الواقع عند الحكم على الحديث الوارد بصيغة الخبر، فقد ذكر الخطيب أن الأخبار ثلاثة أضرب، ما يعرف صحته، وما يعرف فساده، وما يتردد بينهما، ومثل للثاني بما تدفع العقول صحته.
¥