تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والقول بتصديق الخبر الذي يخالف المشاهدة مما تدفع العقول صحته، ولذلك ألحق الغزالي ضمن ما يعرف فساده ما يعلم خلافه بضرورة الحس والمشاهدة بقوله: "القسم الثاني من الأخبار: ما يعلم كذبه؛ وهي أربعة الأول ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة، ... ".

وتبع الغزالي في النص على اشتراط عدم مخالفة الخبر للواقع لكي يكون صدقاً جماعة من أهل العلم، كالحافظ ابن حجر في النكت حيث قال: "ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة كالخبر عن الجمع بين الضدين ... ".

كما أن الدليلين العقلي والنقلي يدلان على وجوب عدم مخالفة الواقع للخبر، وإلا كان ذلك الخبر كذباً، فأما الدليل العقلي فهو أن تصديق الخبر الذي يخالف المشاهدة يعد جمعاً بين النقيضين، لأن المشاهدة تقول لا يصح، والمصدق يقول بأنه يصح، وهذان نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والجمع بين النقيضين يناقض المعقول.

وأما الدليل النقلي فهو أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر إقسام الكفار على عدم البعث بقوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت}، أجاب بقوله: {بلى وعداً عليه حقاً} أي البعث، ثم ذكر بعض ما يترتب على ذلك البعث بقوله: {ليبين لهم الذي يختلفون فيه، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين}، فجعل وقوع ما أقسموا على عدم وقوعه دليلاً على كذبهم.

وكذلك قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}، لأن استئذان المنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم في القعود دعوى منهم بأنهم تحت أمره وطاعته، فلو لم يأذن لهم لتبين له الصادق في دعواه من الكاذب بوقوع الاتباع للأمر أو المخالفة له، فجعل سبحانه وتعالى وقوع المخالفة منهم عند عدم إذنه عليه الصلاة والسلام لهم بالقعود دليلاً على كذب دعواهم بأنهم تحت أمره وطاعته.

وعليه فإن الدليل دل على أن مخالفة الواقع للخبر شرط منفي كالشرطين الأخيرين، أعني عدم الشذوذ وعدم العلة، وأما موافقة الواقع للخبر فليس شرطاً موجباً في صحة الخبر بالنسبة لعلمنا، وإن كان شرطاً في حقيقة الأمر.

والفرق بينهما أن اشتراط عدم مخالفة الواقع للخبر يتحقق بوقوع الواقع على وفق الخبر أو عدم وقوعه في وقت تلقي المكلف له، بينما اشتراط موافقة الواقع للخبر يعلق صحة الخبر على وجود واقع يوافقه، وقد لا يوجد إلا بعد عصر المكلف، فتعليق صحة الخبر على وجود واقع يوافقه مما لا يتوافق مع ما أمر به المكلفون من الإيمان بكل ما جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

إلا أن أهل العلم لا يذكرون هذا الشرط - أعني عدم مخالفة الواقع للخبر- عند ذكر شروط الحديث المقبول، وهذا هو حالهم في شروط أخرى غيره، كمخالفة العقل للخبر، فإنهم يذكرونها عند تقسيمهم للأخبار، ولا يذكرونها عند ذكرهم لشروط الحديث المقبول، ويمكن توجيه عدم تصريحهم بذكر نحو هذا الشرط بتوجيهين؛

التوجيه الأول: أنه يغني عن التصريح بذلك ذكر انتفاء العلة ضمن شروط القبول، لأن مخالفة الواقع الثابت للخبر من أسباب عدم قبول الأحاديث، وقد عرفوا العلة كما هو معلوم بأنها سبب غامض يقدح في صحة الحديث مع أن الظاهر السلامة منه، وعليه فيمكن أن يكون تعريف العلة متضمنا لمخالفة الواقع.

غير أني لست على ثَلَجٍ من هذا التوجيه لأمرين؛ الأول: أن العلة موصوفة بكونها سبباً خفياً، ومخالفة الواقع التي تقدح في الحديث لا يصح أن تكون خفية، بل لا بد من ظهورها بشكل حقيقي، لكي تعد قادحاً في صحة الحديث، والثاني: أن العلة وإن كانت تتطرق للمتن إلا أن المقصود منها - عند المحدثين - ما يرجع إلى الاختلاف في الإسناد، ولذلك قال الخطيب البغدادي: "والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط".

ونقل تحت هذا القول أقوالاً لأئمة الحديث في ضرورة جمع الطرق لمعرفة العلة، ومخالفة الواقع لا تفتقر إلى جمع طرق في الحقيقة، ولعله لأجل ما تقدم ذكره عن أهل العلم قال الحافظ ابن حجر: "فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف".

والتوجيه الثاني: أن عدم ذكر نحو هذا الشرط أغفل لأسباب، لا لأنه داخل في نفي العلة، ومن هذه الأسباب ما يلي؛

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير