أولها: أن اشتراط عدم مخالفة الواقع للخبر أمر ضروري لا يمكن دفعه، ومعنى أنه ضروري أي أنه لا يفتقر إلى التأمل والنظر، ومن ثم كان اعتناء أهل العلم بالشروط التي تفتقر إلى الاستدلال.
وثانيها: أنه من الشروط التي تتعلق بموضوع الخبر وهو المتن، كاشتراط عدم مخالفة الخبر للعقل، بخلاف الشروط التي تذكر في تعريف الحديث المقبول فإنها تتعلق بالطريق إلى ذلك الخبر، وهو الإسناد.
وثالثها: أن الأحاديث ليست كلها أخبارا يمكن أن توافق الواقع أو تخالفه، بل الأغلب من الأحاديث ما يكون من قبيل الإنشاء، ومن ثم لم يكن ذكر الواقع ونحوه حاضراً في ذلك الأغلب.
المسألة الثانية: تحقق مخالفة الحديث للواقع
من المعلوم أن الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، وقد تقدم أن عدم مخالفة الواقع للحديث شرط من شروط قبول الحديث الخبري، كالشروط الخمسة المشهورة.
إلا أن ثمة فرقاً بين اشتراط عدم مخالفة الواقع للخبر، وبين بقية الشروط الخمسة، وذلك أن الشروط الخمسة وإن اشتهر أنها شروط للحديث الصحيح والحسن، إلا أنها ليست شروطاً لصحة الحديث في حقيقة الأمر، وإنما يقال لها شروط صحة تجوزاً، أي في الظاهر، وغالب الظن.
وأما في الحقيقة فهي شروط قبول، لا يلزم من عدمها عدم الصحة، وإنما يلزم من عدمها عدم القبول فقط، ومن ثم فليس تخلف بعضها عن حديث ما سببا للقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، ولا توفرها سبباً للقطع بأنه قاله، وإنما يأتي القطع من خارجٍ عن هذه الشروط، كما هو معلوم.
بخلاف اشتراط عدم مخالفة الواقع للحديث فإنه شرط لصحة الحديث في حقيقة الأمر، ومن ثم فإن تخلفه عن حديث ما يلزم منه القطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، لأن مخالفة الواقع للحديث طعن في صحة متن الحديث نفسه، بخلاف تخلف أي من الشروط الخمسة الأخرى، فإنه طعن في صحة الطريق إلى المتن، وهو الإسناد، ولا يلزم من الطعن في الإسناد عدم صحة الحديث في حقيقة الأمر.
وعليه فإذا كانت مخالفة الواقع تؤدي إلى تكذيب الخبر، أو عدم صحته في نفس الأمر، فلا بد لتحقق هذه النتيجة من تحقق مخالفة الواقع للخبر، أي لا بد من أن تكون المخالفة حقيقية، لا متوهمة.
وذلك إنما يكون بشرطين؛ الشرط الأول: عائد إلى المخالفة نفسها، وهو أن تكون مخالفة الواقع للخبر من باب مخالفة الضدين أو النقيضين، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، والشرط الثاني: أن يكون الطريق المثبت لمخالفة الواقع للخبر هو العلم لا مجرد الظن.
فإذا تخلف أي من الشرطين لم تكن المخالفة حقيقية، وإنما تكون متوهمة أو مظنونة، وليس من المنطق أن يكذب الخبر بمجرد الظن، نعم قد يتوقف فيه أو يترجح عدم قبوله عند البعض، بحسب قوة المخالفة وطريق إثباتها، وضعف ذلك.
ومع أن مخالفة الواقع للخبر تقدح في الخبر إلا أن ثمة أمراً ينبغي التنبيه عليه، وهو أن بين ما ينتهجه المتقدمون في انتقادهم وما ينتهجه المعاصرون فرقاً مهماً، وهو أن المتقدمين إذا رأوا الحديث بين الفساد لم يبادروا إلى رده دون بيان خلل في إسناده، فيكون مرد الانتقاد عندهم إلى خلل في الإسناد، بخلاف المعاصرين.
فيكون العمدة في نهاية المطاف عند المتقدمين صحة الإسناد من عدم ذلك، بينما لا يشكل الإسناد عند المعاصرين كبير أهمية، ومن ثم يسهل على منهج المعاصرين التجرؤ على الأحاديث الصحيحة ولو كانت في الصحيحين.
مثال لما جمع الشرطين
فمن المخالفة التي لا يمكن معها الجمع بوجه من الوجوه، أن يكون التعارض بين الواقع والخبر تعارضاً بين خاص وخاص أو إثبات ونفي، ويمكن التمثيل لما هو من هذا القبيل بحديث ذي اليدين، عندما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الرباعية ثنتين حيث سأله فقال: أنسيت أم قصرت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم أنس ولم تقصر، فقال ذو اليدين: بلى قد نسيت، ... الحديث.
¥