فقد توفر عند ذي اليدين في هذا الحديث ذانك الشرطان المتقدم ذكرهما؛ الأول: أعني العائد إلى المخالفة نفسها، وهو أن نفي النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى الرباعية ركعتين لأن يكون فعل ذلك تشريعاً أو نسياناً يخالفه الواقع مخالفة حقيقية لا يمكن معها الجمع، لأن صلاة الرباعية ركعتين لا تخرج عن أحد احتمالين، كالنقيضين؛ إما أن تكون من باب التشريع، وإما من باب النسيان، ولا احتمال غيرهما، فنفي هذين الاحتمالين مخالف للواقع لا محالة، والأمر الثاني: أعني العائد إلى الطريق المثبت للخالفة، وهو هنا المشاهدة المتيقنة، حيث شاهد النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الرباعية ركعتين.
أمثلة لما تخلف فيه الشرط الأول:
وهو الشرط العائد إلى المخالفة نفسها، بألا تكون المخالفة حقيقية، بحيث يمكن الجمع بينها وبين الخبر، بتخصيص عام أو تقييد مطلق ونحو ذلك.
المثال الأول: مجيء الخبر عاماً يثبت الواقع عدم عمومه، فإن مثل ذلك لا يعد تعارضاً، لإمكان تخصيص ذلك العام بالواقع، أو لإمكان حمل العام على أن المراد به الخصوص، كحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عين زانية ... " الحديث، فإن هذا الحديث لا يصلح أن يعارض ببعض الصالحين والعميان، لأنه عام، والعام لا يعارضه الخاص، بل يخصص به، ويكون المراد من العموم فيه كل عين نظرت إلى ما يحرم عليها عن شهوة.
وقد ذكر أهل الأصول تخصيص العام بالواقع المحسوس في مبحث المخصصات المنفصلة، ويمثلون على ذلك بقوله تعالى: {تدمر كل شيء}، وقوله تعالى: {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}، فإنه قد خرج من ذلك الأرض والجبال، وأمور كثيرة بالحس، لم تدمر، ولم تجعل رميماً، وكذلك قوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء}، فإنه قد خرج من يدها أشياء كثيرة بالحس، فإما أن مثل ذلك عام مخصوص بالواقع الذي هو الحس، أو أنه عام أريد به خصوص بعض الأشياء.
المثال الثاني: مجيء الخبر بلفظ يحتمل عدة معانٍ وأحد تلك المعاني يوافق الواقع والآخر يخالفه، فإن حمل ذلك اللفظ على المعنى الذي يخالف الواقع ومن ثم رد الحديث من أجل ذلك مما لا ينبغي، ومعرفة معاني الألفاظ علم برأسه، يفتقر إلى معرفة واسعة باللغة، ولذلك كان العلم باللغة العربية شرطاً للاجتهاد فيما مرده الاستنباط من النصوص.
كحديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، فإن الفلاح يطلق ويراد به الفوز والظفر بالشيء، ومنه حديث ابن مسعود: "إذا قال الرجل لامرأته استفلحي بأمرك فقبلته فواحدة بائنة" أي فوزي بأمرك واستبدي به، ويطلق ويراد به البقاء، ومنه قول الشاعر الجاهلي وهو الأضبط بن قريع السعدي:
لكل هم من الهموم سعه
والمسي والصبح لا فلاح معه
أي ليس مع كر الليل والنهار بقاء.
فإثبات مخالفة الواقع للحديث يكون بإثبات أمرين؛ الأول: أن معنى الفلاح المراد في الحديث قد تحقق لقوم ولوا أمرهم امرأة، والثاني: أن ذلك الفلاح قد تحقق في أثناء ولايتها، إذ لا بد من تخصيصه بوقت الولاية.
فإذا حملنا معنى الفلاح على أن المراد به الفوز والنصرة، فقد يخالف ذلك الواقع لأننا قد نجد قوماً ولي أمرهم امرأة ومع ذلك ينتصرون أو يظفرون ببعض أعدائهم أثناء ولايتها، بخلاف ما إذا حملنا المعنى على أن المراد به البقاء على ما هم عليه من التمكين والقوة، فإن ذلك لا يخالف الواقع إذ لم نجد قوماً تولى أمرهم امرأة وبقوا على ما هم عليه من التمكين والقوة، أثناء ولايتها.
المثال الثالث: مجيء الخبر على وجه لو لم نحمله على أنه من أعلام النبوة لكان مخالفاً للواقع، وبحمله على أنه من أعلام النبوة لا يعد كذلك، فلا ينبغي والحالة هذه رد الحديث لمجرد احتمالٍ مع إمكان غيره إلا أن يكون رد الحديث لسبب آخر.
¥