كحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم"، هذا الحديث تشريع في الأصل إلا أنه يفيد الخبر أيضاً في جزء منه، وهو أن العراق فيها مسلمون، فذهب بعض أهل العلم إلى عدم ثبوت ذكر التوقيت لأهل العراق، لأنه يخالف الواقع، وهو أن العراق لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في أهل ناحيتها مسلمون، حتى يوقت لهم النبي صلى الله عليه وسلم مهلاً يهلون منه، وإنما فتحت في عهد عمر وهو الذي وقت لأهلها ذات عرق.
وأجاب آخرون بأن هذا القول غفلة من قائليه، لأنه لا خلاف بين أهل العلم أن الشام لم تفتح إلا في عهد عمر، ولم يكن في ناحيتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مسلمون، وقد اتفقت الروايات الكثيرة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وقت لأهلها الجحفة، ومثل ذلك ينبغي حمله على أنه من أعلام النبوة، حيث وقت صلى الله عليه وسلم المواقيت لأهل النواحي كلها، لكونه علم أن الله سيفتح على أمته الشام والعراق وغيرهما من البلدان، وهو كقوله الآخر: "منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشأم مديها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودينارها، ... "، بمعنى ستمنع عند أهل العلم.
مثال لما تخلف فيه الشرط الثاني:
وهو الشرط العائد إلى طريق إثبات المخالفة، وهو إما مشاهدة، وإما سماع عائد إلى المشاهدة، إلا أن المراد بالمشاهدة التي هي شرط في مخالفة الواقع للخبر المشاهدة اليقينية، وهي المباشرة لوقوع الشيء عينه.
ويمكن التمثيل على تخلف هذا الشرط بمثالين؛
المثال الأول: حديث الذباب، وهو حديث مشهور، أكثر الناس الكتابة فيه، ووجه تخلف الشرط الثاني لصحة كون المخالفة حقيقية، هو أن المخالفة في هذا الحديث مبنية على المشاهدة الظاهرة، وهي أن الذباب يقع في الظاهر على القاذورات، ولا بد أن يعلق بجسمه وجناحيه شيء من تلك القاذورات، فالمشاهدة تقتضي ألا يغمس كله في الشراب إذا وقع فيه، ومع ذلك فقد جاء الأمر في الحديث النبوي بخلاف هذه المشاهدة.
إلا أن هذه المشاهدة ليست يقينية، لأننا لا نعلم ماذا حل بتلك القاذورات في الحقيقة، ولا نعلم ما يحتوي عليه جسم ذلك الكائن، وقد أثبت الطب الحديث تصديق الحديث النبوي وتكذيب الواقع المبني على المشاهدة، وذلك باكتشاف أن الذباب يحمل في جسمه وجناحية مكروبات أو جراثيم تسبب بعض الأمراض، ويحمل في نفس الوقت مكروبات مضادة لها، ولا يمكن التيقن من السلامة من تلك المكروبات إلا بغمس الذباب كاملاً.
المثال الثاني: هذا المثال ألحقته بالبحث ولم يكن على عجل ولم يكن فيه، وإنما ألحقته إتماماً للفائدة بعد ما رأيت الموضوع المثبت في الملتقى، كما أني كتبته بناء على ما أتذكر من كلام المنتقدين دون أن أرجع إلى نصوصهم، وإنما وثقت موضع الحديث في الصحيحين فقط.
والحديث هو ما رواه أبو هريرة كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً ... ، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن".
هذا الحديث ذكره جماعة من المعاصرين كمثال لأحاديث منتقدة المتون في الصحيحين، ووجه الانتقاد في نظرهم أن الحديث يخالف الواقع، ومخالفته للواقع مبنية على مقدمتين؛
الأولى: أن شكل الخلق في عهد قوم ثمود هو كشكل الخلق في زمننا هذا، بناء على ما وجد من آثارهم، فلم يحصل تغير في الخلقة من عصر قوم ثمود إلى عصرنا.
والثانية: أن الزمن الذي بين عصر ثمود وعصر آدم كان أقل من الزمن الذي بيننا وبين قوم ثمود.
وعليه فلو كان الخلق يتناقص لكان النقص الذي بيننا وبين ثمود أعظم من النقص الذي بينهم وبين آدم.
وقد استظهر بعض المنتقدين لهذا الحديث من العقلانيين بكلام للحافظ ابن حجر عند شرح الحديث، وهو قوله: "ويشكل على هذا ما يوجد الآن من آثار الأمم السالفة كديار ثمود فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب السابق، ولا شك أن عهدهم قديم وأن الزمان الذي بينهم وبين آدم دون الزمان الذي بينهم وبين أول هذه الأمة، ولم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال".
ووجه تخلف الشرط الثاني هنا، هو أن الطريق المثبت للمخالفة ظني لا يقيني لأمرين؛
¥