وكدلالة الخبر على الواقع بظاهر النص، وهو ما كان راجحاً في أحد المعاني، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله"، فإن ظاهر معنى هذا الحديث حصول الأداء والإتلاف من الله في الدنيا، وذلك بأن يعين من اقترض ونيته السداد على الأداء، ويتلف من أراد خلاف ذلك، إما في معاشه أو في نفسه، وهو أمر محسوس مشاهد، كما يقول الحافظ.
وقد لا تكون الموافقة ظاهرة، كدلالة الخبر على الواقع بالمفهوم، وهو ما أخذ من محل السكوت لا من محل النطق، كحديث: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام"، فإن هذا الحديث يدل بمنطوقه على أن الواقع في الشبهات، سيقع في الحرام، ويدل بمفهوم الموافقة أنه سيقع في المكروه من باب الأولى، وهو واقع محسوس.
وأما الثاني - وهو الواقع غير الظاهر - فإن موافقة الخبر له لا تكون ظاهرة لكل أحد، لأن الشعور الداخلي للإنسان يختلف من شخص لآخر، فقد يشعر شخص غاضب بأن قوله أعوذ بالله من الشيطان مُذْهِبٌ لغضبه كما في الصحيحين من حديث سليمان بن صرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وقد استب رجلان فاحمر وجه أحدهما وانتفخت أوداجه: "إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان ... "، وقد يقولها غاضب آخر فلا يشعر بذهاب غضبه، ويكون ذلك من قصور إدراكه.
وأما الثالث وهو الواقع المتردد بين الظهور والخفاء في الموافقة للخبر فليس له مثال معين، لأن مرده إلى نظر الناظر في ذلك الواقع لا إلى الواقع في حقيقة نفسه، وأنظار الناس تختلف من شخص لآخر، فما يراه عالم موافقة ظاهرة قد يراها آخر خفية، والعكس صحيح، ولذلك فإن كل ما تقدم ذكره من الموافقة الظاهرة والخفية عدا الموافقة الظاهرة عن طريق النص يمكن أن يختلف فيها فتكون عند البعض ظاهرة، وعند آخرين خفية، وعند غيرهم من هذا القسم الأخير.
والذي ينبغي على أهل العلم - إذا لم تكن الموافقة بين الحديث والواقع نصية - عدم الجزم بكون الواقع يدل على الحديث، بل يعامل كل خبر وافقه واقع بما يليق به، بحسب درجة الموافقة بينهما.
المسألة الثانية: مدى
تحقق شروط قبول الحديث
لا شك أن موافقة الواقع للخبر الصحيح الذي استوفى شروط القبول تؤكد صحته، فهذا مما لا ينبغي أن يُختلف فيه، غير أن هذا المعنى ليس هو المقصود ههنا، وإنما المقصود تأثر الحكم على الحديث بموافقة الواقع له عند عدم استيفائه لشروط القبول الخمسة.
ومن المعلوم أن الحديث إذا استوفى شروط القبول كان مقبولاً، وإن فقدها كان مردوداً، وتحقق هذه الشروط وعدم تحققها يتفاوت من حديث لأخر، فقد يكون تحقق هذه الشروط في حديث قوياً بحيث يجزم بقبوله، وقد لا يكون كذلك فيتردد البعض في قبوله.
وكذلك عدم تحققها قد يكون قوياً بحيث يجزم بالرد، وقد لا يكون كذلك فيتردد البعض في الجزم بالرد، كالحديث الذي يروى مرسلاً من طريق من يقبل مرسله، لأن التعليل بالإرسال ليس جزماً بعدم الصحة، وإنما هو مظنة عدمها، فكان ورود الحديث من طريق من يتكفل بالصحة مضعفاً لمظنة عدمها الذي سببه الإرسال.
هذا بالنسبة لقبول الحديث ورده لذاته، وأما قبوله أو رده لغيره فقد يتسامح عند ذلك في تحقق بعض الشروط أو عدم تحققها، ومن هنا وجد الحديث المقبول لغيره، كالذي يرويه راوٍ لا يعتمد على حفظه فيتابعه على روايته غيره أو يوجد من القرائن ما يؤيد الاعتماد على روايته.
وعليه فيمكن تقسيم الأحاديث بحسب قوة موافقة الواقع وقوة عدم استيفاء تلك الشروط الخمسة إلى قسمين:
1 - القسم الأول: ما كان مترددا بين القبول والرد، سواء كان أقرب إلى القبول أو أقرب إلى الرد أو مستوي الطرفين، وهو الحديث الذي يتقوى بالمتابعات والشواهد، فهذا القسم من الحديث ينبغي أن تزيده موافقة الواقع قوة، غير أن هذه الزيادة تكون في القوة بحسب قوة الموافقة، فقد يترجح بها جانب القبول، وقد لا يترجح، ولا أقل من أن يستأنس بها.
ومثال هذا القسم ما ذكره ابن تيمية قال: وروى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم إذ كان بمكة، وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات"، ورواه أبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ".
¥