هذا الحديث لم أقف عليه بهذا اللفظ، والذي في الطبراني قريب منه، وكذا الذي في الناسخ والمنسوخ، وهو من رواية شريك، وشريك يقبل حديثه تارة ويرد أخرى، كما هو معلوم.
وقد ذكر ابن تيمية أن هذا الحديث يؤيده الواقع، حيث قال: "وهو مناسب للواقع فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها، وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون".
هذا المثال لم أورده اقتناعاً بصحة ما ذهب إليه شيخ الإسلام فيه، وإنما أوردته تقريراً للقاعدة فحسب، فإن شيخ الإسلام إنما استشهد بالواقع ظناً منه بأن الحديث ورد بهذه الصيغة التي ذكرها، وأن أهل مكة إنما أخذوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان بمكة، وفي ذلك في الحقيقة نظر ليس بيانه ههنا مقصوداً.
ويمكن التمثيل لهذا القسم أيضاً بحديث عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال".
هذا الحديث رواه جماعة كثيرة عن نعيم بن حماد قال ثنا عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك رضي الله عنه به، واستنكره على نعيم بن حماد دحيم وابن معين، وقد تابع نعيماً عليه ثقتان، وجماعة آخرون من الضعفاء، إلا أن ابن عدي ذكر بأن كل من تابع نعيماً عليه فقد سرقه من نعيم، وكذا قال عبد الغني المقدسي.
والناظر في كلام هؤلاء الأئمة على هذا الحديث واستنكارهم له لا يسعه إلا تقليدهم، للثقة بهم، وإن كان في النفس مجالٌ للتساؤل عن سبب استنكارهم له، إلا أن يقال بأن تفرد مثل نعيم بن حماد بمثل هذا الحديث هو السبب في استنكارهم، وذلك لسببين؛ أولهما: أن نعيم بن حماد من الطبقات المتأخرة بالنسبة للتفرد، فهو من طبقة شيوخ الشيخين، ومثل هذه الطبقة في العادة لا يصح لهم تفرد إلا نادراً، والسبب الثاني: أن هذا المتن مستغرب بعض الشيء لأن فيه ذم القياس، وهو أحد الأدلة.
ومع ذلك فقد صحح الحديث الحاكم على شرط الشيخين، وهو وإن كان متساهلاً في التصحيح إلا أن ثمة مجال لقبول مثل هذا الحديث، وذلك لأمرين؛ الأول: أن نعيماً قد تابعه على رواية الحديث عن عيسى ثقتان، ولذلك عقب الخطيب بعد نقله لإنكار ابن معين بقوله: "وافق نعيما على روايته هكذا عبد الله بن جعفر الرقي وسويد بن سعيد الحدثاني"، وقد تثبت سويد على روايته عندما أوقفه جعفر الفريابي في رواية لهذا الحديث، ودار بينهما كلام كثير".
وقد أنكر ابن معين أشد الإنكار على سويد بن سعيد حديثاً رواه عن أبي معاوية، فقال الدارقطني: "فلم نزل نظن أن هذا كما قاله يحيى وأن سويدا أتى أمرا عظيما في روايته لهذا الحديث حتى دخلت مصر في سنة سبع وخمسين فوجدت هذا الحديث في مسند أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي المعروف بالمنجنيقي وكان ثقة روى عن أبي كريب عن أبي معاوية كما قال سويد سواء وتخلص سويد وصح الحديث عن أبي معاوية".
ولذلك قال الذهبي: "أنا أتعجّب من هذا الحديث كيف يرويه مثل نعيم وسويد والحكم البلخيّ وغيرهم عن عيسى بن يونس ثم لا ينسب إلى عيسى بل إلى هؤلاء، والذي أراه أنّه محفوظ من حديث عيسى فإن كان خطأ فمنه".
والثاني: أن متن هذا الحديث وإن كان مستغرباً بعض الشيء إلا أن له محملاً صحيحاً، وهو ذم القياس الذي يفضي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال كما هو نص الحديث، لا سيما وللمتن شاهد، وهو وإن كان موقوفاً على ابن مسعود إلا أن له حكم الرفع، وهو قوله: "لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله أما إني لست أعني عاما أخصب من عام ولا أميرا خيرا من أمير ولكن علماؤكم وخياركم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم".
وعليه فهذا الحديث دائر بين القبول والرد، ومن الصعوبة بمكان الجزم برده أو الجزم بقبوله، وقد يكون عند البعض مقبولاً أو إلى القبول أقرب، وعند آخرين مردوداً أو إلى الرد أقرب.
وهو حديث يشهد الواقع له، فإنه قد ظهر في أمة الإسلام على مر التاريخ أناس يقيسون الأمور بآرائهم، فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال.
¥