وللمغاربة اختصار فريد قلما تنبه له، فإنهم يذكرون الحديث الأول في فاتحة الكتاب مسندا من طريق المصنف إلى منتهاه، ثم يختصرون بقية الإسناد - التي يشترك مخرجها مع الإسناد الأول- عند موضع الإشتراك، ويفرقون بين الإسناد والآخر بواو عاطفة تربط بينهم. ومثاله ما رواه أبو العرب القيرواني في كتاب "المحن" (ص:110) قال:" حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن حنبل عن حماد بن أسامة (كذا في المطبوعة) قال أخبرنا هشام عن أبيه قال: أسلم الزبير وهو ابن ست عشر سنة…
- وقال أحمد بن حنبل حدثني حجيربن المثنى قال حدثنا حبان بن علي عن معروف عن أبي جعفر قال: كان علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، في سن واحدة"اهـ.
ت: وهي كثيرة في كتابه وفي كتب ابن عبد البر الأندلسي أيضا، قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله- في مقدمة تحقيق كتاب "الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء":" وتأتي (نا)، و (ني) في هذا الكتاب أحيانا مصحوبة بواو قبلها هكذا: (ونا)، (وني). وهذه الواو واو العطف، يؤتى بها لعطف الإسناد اللاحق على قول صاحب الإسناد السابق، كما ستراه في مواضع كثيرة منه، وما رأيته إلا في هذا الكتاب، فلعله من اصطلاح السادة المحدثين المغاربة، إذ لم أره في كتب المصطلح، ولا في كتب السادة المحدثين المشارقة، والله أعلم"اهـ.
ت: بل هو اصطلاح لهم كما مر وسيأتي، فقد أخرج البخاري في كتاب بدء الوحي (1/ 31 - فتح) قال: حدثنا الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش .. (وذكر حديث هرقل الطويل وهو من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم)، ثم قال: وكان ابن الناطور يحدث (فذكر هذه القصة)، فهي موصولة إلى ابن الناطور لا معلقة كما زعم من لا عناية له بهذا الشأن، وكذلك أغرب بعض المغاربة فزعم أن قصة ابن الناطور مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان عنه، كأنه لما رآها لا تصريح فيها بالسماع حملها على ذلك…"اهـ.
ت: ولا غرابة في زعمهم على الإطلاق لمن علم مذهبهم في (الواو العاطفة)، بل وكأنهم هنا سلكوا الجادة فيما تعارفوا عليه، فحملوا سائر إسناد المتن السابق على لاحقه، أما إن قصد بالغرابة المعنى الإصطلاحي، وهو تفردهم بهذا الاصطلاح عن غيرهم، فهو كذلك.
وعلى هذا سار عامة متأخري المغاربة والتي تميزت تصانيفهم الحديثية - كغالب أهل الفن- بحذف الأسانيد والاكتفاء بذكر مخرجه من الأئمة أصحاب التصانيف الشهيرة كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن مع ذكر راويه من الصحابة، فيعطفون راوي الحديث الأول على الثاني إن كان حديثهم من المصدر نفسه كالكتب المذكورة آنفا.
جاء في مقدمة كتاب تلقين الوليد الصغير لعبد الحق الاشبيلي نزيل بجاية، تحقيق وتخريج وتقديم: أبي الفضل بدر العمراني الطنجي، تحت عنوان: منهج الحافظ عبد الحق الاشبيلي في كتابه (ص:13)." .. وإذا ذكر الحديث لمسلم أو لغيره عن صاحب ثم يقول: (وعنه) أو (وعن فلان)، فإنما كل ذلك لمسلم،أو من الكتاب الذي يذكر أولا، حتى يسمي غيره، وإذا قال: وفي رواية أخرى أو في طريق آخر لسواه، ثم قال: زاد البخاري كذا أو زاد فلان كذا وكذا، ولم يذكر الصاحب ولا النبي صلى الله عليه وسلم،فإنه عن ذلك الصاحب عن النبي صلى الله عليه وسلم.وهذا المنهج نفسه الذي سار عليه في "الأحكام الوسطى"، بل هو منهج أغلب الأندلسيين كما أخبرني شيخنا محمد بوخبزة"اهـ.
9) - وانفردوا بمصطلح خاص في السؤال عن أحوال الرواة:
جاء في السير للذهبي في ترجمة الإمام الحافظ الأندلسي بقي بن مخلد (13/ 292):" .. حكي عنه أنه قال:… أتيت المسجد الجامع الكبير- ببغداد- وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرونه فدفعت إلى حلقة نبيلة فإذا برجل يكشف عن الرجال فيضعف ويقوي فقلت: هذا يحيى بن معين. فقمت إليه فسألته عن بعض من لقيت من أهل الحديث فبعضا زكى وبعضا جرح … فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد: أحمد بن حنبل، فنظر إلي كالمتعجب وقال لي: ومثلنا يسأل عن أحمد بن حنبل؟؟ إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم".
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله- في الصفحات (هامش ص:56):" هذا التعبير وقفت عليه في كلام علماء الأندلس، ولم أقف عليه في المعاجم ولا في كلام العلماء المشارقة، وهو بمعنى: أسألك عن رجل لأعرف حاله، ففي كتاب " قضاة قرطبة" للخشني (ص.24) في ترجمة معاوية بن صالح الحضرمي:"… دخل زياد بن عبد الرحمن ومعاوية بن صالح على مالك بن أنس، فسأله معاوية بن صالح عن نحو مائتي مسألة، فأجابه مالك عن جميعها، فكشف زياد بن عبد الرحمن مالكا وقال له: يا أبا عبد الله، كيف رأيت معاوية بن صالح؟ فقال له مالك: ما سألني أحد قط مثل معاوية بن صالح، ثم كشف زياد معاوية عن مالك؟ فقال له معاوية: ما سألت أحدا مثل مالك "اهـ.
10) - وانفردوا ببيان أحوال بعض الرواة:
وقد أفردت لهذا المبحث بحثا خاصا بعنوان." العبرات المتساكبة على تراجم المغاربة" - يسر الله إتمامه- فانظره.
(يتبع إن شاء الله…)
(1) - مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي وانظر لها أيضا كتب المصطلح.
(2) - المصدر نفسه بتصرف.
(3) - المصدر نفسه بتصرف.
(4) - المصدر نفسه بتصرف.
(5) - الأرقام العربية تاريخها وأصالتها وما استعمله المحدثون وغيرهم منها - مقال ل: د. قاسم علي سعد - مجلة الأحمدية-العدد:02.
¥