فإذا تبين لك اختصاص هؤلاء الأئمة النقاد بتمييز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبيين صحيحه من سقيمه = فاعلم أنه ليس لغيرهم _ ممن لم يشاركهم في علمهم ويحذو حذوهم _ الكلام في فنهم.
قال السخاوي: (اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعني، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين، فتقليدهم والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت، مع الفهم وجودة التصور = يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية، ولا قوة إلا بالله).
قلت: ولهذا كان (تقديم كلام أهل كل فن على كلام غيرهم في ذلك الفن الذي اختصوا به، وقطعوا أعمارهم فيه، فإنك متى نظرت وأنصفت، وجدت لكل أهل فن من المعرفة به، والضبط له، والتسهيل لجمع مسائله، والتقييد لشوارد فوائده، والإحاطة بغرائبه، والتذليل لما يصعب على طالبه ما لم يشاركهم فيه غيرهم ممن هو أفضل منهم من أئمة الدين، وكبراء المسلمين) (14).
ومن ذلك علم الحديث، فلا يحق لمن ليس من أهل هذا العلم أن ينازع أهله شأنهم، وأن يتكلم في فنهم.
قال ابن القيم: (وإنما يعلم ذلك من تضلّع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويُخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة، بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه!.
فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وكلامه، وما يجوز أن يُخبر به وما لا يجوز = ما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه، فإن للأخص به الحريص على أقواله وأفعاله من العلم بها والتمييز بين ما يصح أن يُنسب إليه وما لا يصح: ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم، يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم، والله أعلم) (15).
وقد تضافرت كلمات العلماء في تأكيد هذا المعنى وهو (اختصاص المحدثين دون من سواهم بتمييز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحه من سقيمه)، وإليك بعض أقوالهم:
قال مسلم بن الحجاج: (واعلم _ رحمك الله _ أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هي لأهل الحديث خاصة، لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفون بها دون غيرهم. إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم: السننُ والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر، من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا، فلا سبيل لمن نابذهم من الناس وخالفهم في المذهب إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار من نُقّال الأخبار وحُمّال الآثار. وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح) (16).
وقال ابن مندة (ت301 هـ): (إنما خصّ الله بمعرفة هذه الأخبار نفراً يسيراً من كثير ممن يدعي علم الحديث، فأما سائر الناس: من يدعي كثرة كتابة الحديث، أو متفقه في علم الشافعي وأبي حنيفة، أو متبع لكلام الحارث المحاسبي والجنيد وأهل الخواطر = فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحديث، إلا من أخذه عن أهله وأهل المعرفة به، فحينئذ يتكلم بمعرفته) (17).
وقال الخطيب البغدادي مبيناً وصف أصحاب الحديث: (يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع) (18).
¥