تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقال أبوالمظفر السمعاني (ت489 هـ): (لا بد من تعرف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليس طريق معرفته إلا النقل، فيجب الرجوع إلى ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تنازعوا الأمر أهله)، فكما يرجع في معرفة مذاهب الفقهاء الذين صاروا قدوةً في هذه الأمة إلى أهل الفقه، ويُرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة، وفي النحو إلى النحو = كذا يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أهل الرواية والنقل، لأنهم عُنوا بهذا الشأن، واشتغلوا بحفظه والفحص عنه ونقله، ولولاهم لاندرس علم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقف أحدٌ على سنته وطريقته!

فإن قالوا: فقد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلطت عليهم؟

قلنا: ما اختلطت إلا على الجاهلين بها، فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير، فيميزون زيوفها ويأخذون جيادها. ولئن دخل في أغمار الرواة من وُسم بالغلط في الأحاديث، فلا يروج ذلك على جهابذة الحديث ورتوت العلماء، حتى إنهم عدُّوا أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون. بل تراهم يعدون على كل واحد منهم في كم حديث غلط، وفي كم حرفٍ حرّف، وماذا صحّف).

إلى أن قال: (فتدبر رحمك الله، أيُجعل حكم من أفنى عمره في طلب أثار النبي شرقاً وغرباً، براً وبحراً، وارتحل في الحديث الواحد فراسخ، واتهم أباه وأدناه في خبر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان موضع التهمة، ولم يحابه في مقال ولا خطاب، غضباً لله وحمية لدينه، ثم ألف الكتب في معرفة المحدثين: أسمائهم وأنسابهم، وقدر أعمارهم، وذكر أعصارهم، وشمائلهم وأخبارهم، وفصل بين الرديء والجيد، والصحيح والسقيم، حباً لله ورسوله، وغيرة على الإسلام والسنة، ثم استعمل الآثار كلها، حتى فيما عدا العبادات من أكله وطعامه، وشرابه ونومه، ويقظته وقيامه، وقعوده ودخوله وخروجه، وجميع سيرته وسننه، حتى في خطواته ولحظاته، ثم دعا الناس إلى ذلك، وحثَّهم عليه وندبهم إلى استعماله، وحبب إليهم ذلك بكل ما يمكنه، حتى في بذل ماله ونفسه = كمن أفنى عمره في اتباع أهوائه وآرائه وخواطره وهواجسه!) (19).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا علم _ أي المعرفة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله _ أقام الله له من حفظ به الأمة ما حفظ من دينها، وغير هؤلاء لهم تبع فيه، إما مستدل بهم، وإما مقلد لهم، كما أن الاجتهاد في الأحكام أقام الله له رجالاً اجتهدوا فيه حتى حفظ الله بهم على الأمة ما حفظ من الدين، وغيرهم لهم تبع فيه، إما مستدل بهم وإما مقلد لهم) (20).

وقال ابن القيم: (الاعتبار في الإجماع في كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء = كذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم) (21).

وقال ابن رجب بعد أن نقل تعليل أئمة الحديث لحديث (إذا حُدثتم عني حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به …) قال: (وإنما تُحمل مثل هذه الأحاديث _ على تقدير صحتها _ على معرفة أئمة الحديث الجهابذة النقاد، الذين كثرت ممارستهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام غيره، ولحال رواة الأحاديث، ونقلة الأخبار، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيّدها ورديئها، وخالصها ومشوبها، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر، وكلُّ من هؤلاء لا يُمكن أن يعبر عن سبب معرفته، ولا يُقيم عليه دليلاً لغيره، وآية ذلك أنه يُعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة) (22).

ثم قال: وبكل حال فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفرادٌ قليل من أهل الحديث جداً) (23).

وقال ابن الوزير اليماني: (فإذا عرفت أن المرجع بالمعرفة التامة في الفنون العلمية إلى أهلها المختصين بمعرفتها، المنقطعين في تحقيقها، المستغرقين في تجويدها، المشغولين بها عن غيرها، المصنفين فيها الكتب الحافلة، والتواليف الممتعة، وكذلك، فتحقق أيضاً أن المرجع في معرفة الحديث صحيحه وموضوعه، وموصوله ومقطوعه، وموقوفه ومرفوعه، ومدرجه ومعضله، ومسنده ومرسله، ومقلوبه ومعَلَّلِه، ومضطرِباته وبلاغاته، وشواهده ومتابعاته، وتواريخ رجاله وأحوالهم، والكلام في جرحهم وتعديلهم وتضعيفهم وتليينهم، إلى غير ذلك من علومه الغزيرة، وفوائده العزيزة هو إلى علماء الحديث الذين قطعوا أعمارهم في الرحلة إلى أقطار الدنيا لجمع شوارده، ولقاء مشايخه حتى أخذ الواحد منهم عن ألوف من الشيوخ، وبلغ الحافظ منهم ما لا تكاد تحتمله العقول) (24).


(13) فتح المغيث (1/ 236).
(14) العواصم والقواصم (2/ 429).
(15) المنار المنيف (44).
(16) التمييز (218).
(17) شرح علل الترمذي لابن رجب (1/ 339_340).
(18) شرف أصحاب الحديث (9).
(19) الحجة في بيان المحجة (2/ 234_235) ومختصر الصواعق المرسلة (561_562). واستفدت هذا الموضع من المنهج المقترح (137).
(20) منهاج السنة (4/ 113).
(21) مختصر الصواعق المرسلة (537).
(22) جامع العلوم والحكم (2/ 105_106).
(23) جامع العلوم والحكم (2/ 107).
(24) العواصم والقواصم (2/ 431).
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير