تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[هشام الحلاّف]ــــــــ[20 - 09 - 05, 11:55 ص]ـ

ولعل قائلاً أن يقول: إن ما ذكرته من وجوب الرجوع في تصحيح الحديث وتضعيفه إلى أهل الحديث أمر معلوم بداهة! فلم التنبيه على ما هذا صفته؟!

فأقول: إن الناظر في كلام أهل العلم على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً يجد أن منهم من تكلم في هذا العلم بغير طريقة أهله، وسلك فيه مسلكاً لم يرضه أصحابه، ومن لم ينتبه لهذا الأمر خلط بين الطريقين ولم يميز بين المسلكين.

فمن ذلك أن للأصوليين والفقهاء طريقة في تصحيح الحديث وتضعيفه سوى طريقة المحدثين، وقد نبه جماعة من أهل العلم إلى هذا الأمر، كأبي الوفاء بن عقيل وابن الجوزي وابن دقيق العيد وابن القيم وابن رجب وغيرهم.

ومن أقدم من رأيته نبه إلى هذا الأمر هو أبوعبدالله الحاكم، فإنه قال في كتابه المدخل إلى كتاب الإكليل (40) في القسم الثالث من الصحيح المختلف فيه: (خبر يرويه ثقة من الثقات عن إمام من أئمة المسلمين فيسنده، ثم يرويه عنه جماعة من الثقات فيرسلونه ..

وهذا القسم مما يكثر .. فهذه الأخبار صحيحة على مذهب الفقهاء، فإن القول عندهم فيها قول من زاد في الإسناد أو المتن إذا كان ثقة.

فأما أئمة الحديث فإن القول فيها عندهم قول الجمهور الذي أرسلوه لما يخشى من الوهم على هذا الواحد لقوله صلى الله عليه وسلم (الشيطان مع الواحد، وهو مع الإثنين أبعد).

ومن العجيب ما ذهب إليه بعض أهل العلم بالفقه من صحة الطريقتين في تصحيح الحديث!!

قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (1/ 59) شارحاً قوله (وشرطي فيه أن لا أورد فيه إلا حديث من وثقه إمام من مزكي رواة الأخبار، وكان صحيحاً على طريقة بعض أهل الحديث الحفاظ، أو بعض أئمة الفقهاء النظار، فإن لكل منهم مغزى قصده، وطريقاً أعرض عنه وتركه).

قال: (يريد أن لكل من أئمة الحديث والفقه طريقاً غير طريق الآخر، فإن الذي يبين وتقتضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث: عدالة الراوي وجزمه بالرواية. ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه، فمتى حصل ذلك وجاز ألا يكون غلطاً وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة = لم يترك حديثه.

وأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول، ثم تقوم لهم علل فيه تمنعهم من الحكم بصحته، كمخالفة جمع كثير له، أو من هو أحفظ منه، أو قيام قرينة تؤثر في أنفسهم غلبة الظن بغلطه، ولم يجر ذلك على قانون واحد في جميع الأحاديث.

ولهذا أقول إن من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند، أو واقف ورافع، أو ناقص وزائد: أن الحكم للزائد = فلم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول. وأقرب الناس إلى إطراد هذه القواعد بعض أهل الظاهر).

بل ذهب بعض الفقهاء إلى تفضيل طريقتهم في تصحيح الحديث وتضعيفه على طريقة المحدثين!

قال الزركشي في كتابه النكت على مقدمة ابن الصلاح (2/ 209_211):

(واعلم أن للمحدثين أغراضاً في صناعتهم احتاطوا فيها لا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك!!

فمنه تعليلهم الحديث المرفوع بأنه روي تارة موقوفا وتارة مرسلا، وطعنهم في الراوي إذا انفرد برفع الحديث أو بزيادة فيه لمخالفته من هو أحفظ منه، فلا يلزم ذلك في كل موطن، لأن المعتبر في الراوي العدالة وأن يكون عارفاً ضابطاً متقناً لما يرويه، نعم إذا خالف الراوي من هو أحفظ _ وأعظم مخالفة معارضه _ فلا يمكن الجمع بينهما ويكون ذلك منه قدحاً في روايته، وكقولهم من لم يرو عنه إلا راو واحد فهو مجهول، ومن عارضت روايته رواية الثقات فهو متهم، كل ذلك فيه تفصيل. وإنما احتاطوا في صناعتهم كما كان بعض الصحابة يحلف من حدثه أو يطلب شاهدا أو غيره، وكل ذلك غير لازم في قبول أخبار الآحاد! لأن الأصل هي العدالة والحفظ.

والفقهاء لا يعللون الحديث ويطرحونه إلا إذا تبين الجرح، وعلم الاتفاق على ترك الراوي، ومنه قولهم (منقطع ومرسل) وهذا إنما يكون علة إذا كان المرسل يحدث عن الثقات وغيرهم، ولا يكون علة معتبرة إذا كان المرسل لا يروي إلا عن الثقات، وقلنا إن روايته عنه تعديل وعلى هذا درج السلف، فأما إذا عارضه مسند عدل كان أولى منه قطعاً، وكذلك قولهم (فلان ضعيف) ولا يثبتون وجه الضعف، فهو جرح مطلق وفي قبوله خلاف، نعم ربما يتوقف الفقهاء في ذلك وإن لم يتبين السبب.

وقال ابن حزم: (قد علل قوم أحاديث بأن رواها عن رجل مرة، وعن آخر أخرى، وهذا قوة للحديث! وزيادة في دلائل صحته!! ومن الممكن أن يكون سمعه منهما).

ورحم الله أئمة العلم والفقه الذين عرفوا قدر أئمة الحديث!

فأخذوا علم الحديث عنهم، ورجعوا فيه إلى قولهم، ولم ينازعوهم شأنهم!

قال الربيع: سمعت الشافعي قال لبعض أصحاب الحديث: (أنتم الصيادلة، ونحن الأطباء) (25).

وهاهو الشافعي على جلالة قدره في العلم وعظيم محله فيه إذا جاء الكلام على الحديث صحة وضعفاً رده إلى أهله وقال: (لا يُثْبِتُ أهلُ الحديثِ مِثْلَه) (26).

وقال الأوزاعي: (كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما يُعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذنا به، وما أنكروا تركنا) (27).

والمقصود هو التنبيه على وجود من تكلم في تصحيح الحديث وتضعيفه بغير طريقة المحدثين، ولهذا وقع من بعض أهل العلم ممن لم يتنبه لهذا الأمر أن تكلم على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً بقواعد للفقهاء والأصوليين ظاناً أنه على نهج المحدثين!

يتبع بإذن الله


(25) سير أعلام النبلاء (10/ 23).
(26) الأم (1/ 190،257، 2/ 43،75،193 ... ).
(27) المحدث الفاصل: (318رقم 217).
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير