ـ[هشام الحلاّف]ــــــــ[24 - 09 - 05, 02:09 ص]ـ
فإذا علمت بعد هذا كله وجوب الرجوع في تصحيح الحديث وتضعيفه إلى أهله المتخصصين فيه = فاعلم أن المعوّل إنما هو على كلام الأئمة المتقدمين منهم، لأنهم بناة هذا العلم، ومؤسسو قواعده، وواضعوا ضوابطه، وهم الذين تواضعوا على مصطلحاته، فهم (أهل الاصطلاح)، الذين لم يبق لمن جاء بعدهم إلا أخذ معاني مصطلحاته منهم، وتلقي هذا العلم عنهم، والسير به على نهجهم.
واعلم أن الله قد خص هذه الطائفة بخصائص ليست في غيرهم:
_فهم من عاشوا في عصر الرواية، فحضروا مجالس التحديث، وشاهدوا الرواة، واطلعوا على أخبارهم، وسبروا أحوالهم، وسمعوا منهم، وكتبوا عنهم، وعاينوا أصول مروياتهم (وليس الخبر كالمعاينة)، مع اختبارهم لهم، وامتحانهم إياهم، فعرفوا حالهم، وعلموا مدى ضبطهم. ثم هم مع ذلك متى ما شكوا في راو طالبوه بأصله فنظروا فيه، ومتى ما ترددوا في رواية راو اطلعوا على كتبه وأوراقه، وسألوا خواصه من أصحابه وطلابه.
بخلاف من جاء بعدهم فقد غاب عنهم هؤلاء الرواة، وطالت عليهم الأسانيد، وفقدت الأصول، فليس لهم من المعرفة بالرواة إلا ما كتبه من قبلهم، وليس لهم من العلم بالأصول والكتب إلا ما أخبر به من سبقهم.
ولهذا قال الذهبي: (وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول، وعرفوا عللها، وأمّا نحن فطالت علينا الأسانيد، وفُقِدت العبارات المتيقنة، وبمثل هذا ونحوه دخل الدَّخَل على الحاكم في تصرفه في المستدرك) (28).
_ثم إن هؤلاء الأئمة المتقدمين أكثر علماً، وأوسع حفظاً، وأشد ضبطاً، وأدق نظراً، بما لا يشك في ذلك لمن نظر في تراجمهم واطلع على سيرهم وأخبارهم.
قال الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه الجامع: (الوصف بالحفظ على الإطلاق ينصرف إلى أهل الحديث خاصة، وهو سمة لهم لا يتعداهم، ولا يوصف بها أحد سواهم، لأن الراوي يقول حدثنا فلان الحافظ فيحسن منه إطلاق ذلك، إذ كان مستعملاً عندهم يوصف به علماء أهل النقل ونقادهم، ولا يقول القارئ لقنني فلان الحافظ، ولا يقول الفقيه درسني فلان الحافظ، ولا يقول النحوي علمني فلان الحافظ.
فهي أعلى صفات المحدثين وأسمى درجات الناقلين، من وجدت فيه قبلت أقاويله، وسلم له تصحيح الحديث وتعليله، غير أن المستحقين لها يقل معدودهم ويعز، بل يتعذر وجودهم، فهم في قلتهم بين المنتسبين إلى مقالتهم أعز من مذهب السنة بين سائر الأراء والنحل، و أقل من عدد المسلمين في مقابلة جميع أهل الملل) (29).
ولهذا قال الذهبي في ترجمة الإسماعيلي: (وصنف الصحيح وأشياء كثيرة، من جملتها مسند عمر رضي الله عنه، هذبه في مجلدين، طالعته وعلقت منه بحفظ هذا الإمام، وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة!) (30).
وقال أيضاً _ في آخر ترجمة الحافظ الشعراني _: (وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة) (31).
والأخبار في سعة حفظهم وقوة ضبطهم وشدة إتقانهم أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تسطر، وإنما الذي ينبغي التنبيه عليه والتنويه إليه هو بالغ اهتمامهم وشدة حرصهم على جمع طرق الحديث غريبها ومشهورها، عاليها ونازلها، صحيحها وسقيمها، حتى إنهم كانوا يرحلون في طلب الحديث الواحد الذي لم يسمعوا به المسافات البعيدة ويمضون في طلبه الأيام العديدة.
فلهذا يندر أن يتفرد أحدهم ممن تأخرت طبقته بحديث ليس عند أقرانه.
قال الذهبي: (ويندر تفردهم (أي أصحاب الأتباع)، فتجد الإمام منهم عنده مئتا ألف حديث، لا يكاد ينفرد بحديثين ثلاثة!
ومن كان بعدهم فأين ما ينفرد به؟! ما علمته، وقد يوجد!) (32).
وفي هذا دلالة على سعة حفظهم وكثرة إطلاعهم بحيث لا يكاد يفوت على الواحد منهم حديث غريب وهو صحيح.
ومما يبين لك ذلك _ ويؤكد صدق مقالة الذهبي السابقة _ هذه القصة التي ساقها ابن أبي حاتم.
¥