تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: (قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: من أغرب عليّ حديثاً غريباً مسنداً صحيحاً لم أسمع به فله درهم يتصدق به، وقد حضر على باب أبي الوليد خلق من الخلق، أبوزرعة فمن دونه!، وإنما كان مرادي أن يُلقى عليّ ما لم أسمع به، فيقولون هو عند فلان فأذهب فأسمع، وكان مرادي أن أستخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يغرب عليّ حديثاً!!) (33).

ثم تنبه إلى أن أئمة الحديث المتقدمين مع أنهم أشد حفظاً، وأقوى ضبطاً وإتقاناً ممن جاء بعدهم .. فهم أيضاً أكثر حفظاً، وأوسع علماً، وأكثر إحاطة وإطلاعاً بالمرويات، بما لا يمكن للمتأخر أن يدركهم فيه.

فلا يمكن أن يصلوا إلى درجتهم في (كثرة) الحفظ و (سعته) مهما حفظوا!

بل لو حفظوا كل ما وجدوه، واستوعبوا كل ما حصلوه! ..

لأن جملةً من طرق الحديث التي كانت تروى قد اندثرت واندرست، وجملة كبيرة من الأجزاء الحديثية التي كتبت أهملت وفقدت، وبهذا لم يصل لنا جملة من الأسانيد التي كانت تروى وتحفظ في عصر المتقدمين.

وإن كنت في شك من ذلك فاقرأ كلام الحفاظ المتقدمين في سعة ما حفظوا، وكثرة ما كتبوا، وقارن ذلك بما وصل إلينا تجد الفرق واضحاً والبون شاسعاً.

ولاشك أن لهذا الفقد تأثيراً في علم المتأخرين وفي دقة حكمهم على الأحاديث لارتباط الحكم على الأحاديث بالعلم بالأسانيد.

وأنبه إلى أن هذا لا يعني هذا ضياع شيء من السنة، حاشا وكلا، فإن الله تكفل بحفظها كما قررناه في أول مقالنا هذا، وإنما المقصود فقد جملة من الأسانيد والطرق، التي كان يمكن أن تجبر ضعفاًَ توهمناه، أو تزيح محل شك ظنناه، أو تدلنا على مكان خلل أهملناه.

ولهذا لما عرف المحدثون قدر كبار أئمتهم في سعة الحفظ، وكثرة السماع، وتتبع الأحاديث والطرق، مع قوة الضبط، وشدة الحرص، وسمو الهمة = ذكروا أن الحديث الذي لا يعرفه الواحد منهم علامة على أنه من الأحاديث التي ليست بصحيحة!

وإليك كلامهم:

قال عبدالله بن إدريس: (كل حديث لا يعرفه عبدالله بن المبارك فنحن منه براء) (34).

وقال أحمد بن حنبل: (كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث، أو فليس هو بثابت) (35).

وقال إسحاق بن راهويه: (كل حديث لا يعرفه أبوزرعة فليس له أصل) (36).

وقال محمد بن أبى حاتم الوراق: سمعت محمد بن إسماعيل (وهو البخاري) يقول: (ذاكرني أصحاب عمرو بن علي (وهو الفلاس) بحديث، فقلت: لا أعرفه، فسُرُّوا بذلك، وساروا إلى عمرو بن علي، فقالوا له: ذاكرنا محمد بن إسماعيل البخاري بحديث فلم يعرفه! فقال عمرو بن علي: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث!!) (37).

ولهذا قال السيوطي: (إذا قال الحافظ المطلع الناقد في حديث (لا أعرفه)، اعتُمِد ذلك في نفيه كما ذكر شيخ الإسلام) (38).

ولما ذكر فخر الدين الرازي أن من علامات الحديث الموضوع أن يُروى في زمان قد استقرت فيه الأخبار، فإذا فُتِّش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ولا في صدور الرجال علم بطلانه، وأما في عصر الصحابة _ رضي الله تعالى عنهم _ حين لم تكن الأخبار استقرت، فإنه يجوز أن يروي أحدهم ما لا يوجد عند غيره (39).

عقب عليه العلائي بقوله: (وهذا إنما يقوم به _ أي بالتفتيش عليه _ الحافظ الكبير الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو بمعظمه، كالإمام أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين، ومن بعدهم كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة، ومن دونهم كالنسائي ثم الدارقطني.

لأن المأخذ الذي يُحكم به غالباً على الحديث بأنه موضوع إنما هي الملكة النفسانية الناشئة عن جمع الطرق، والإطلاع على غالب المروي في البلدان المتنائية، بحيث يعرف بذلك ما هو من حديث الرواة مما ليس من حديثهم، وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة فكيف يقضي بعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع!، هذا ما يأباه تصرفهم، فالله أعلم) (40).

قال ابن عراق: (فاستفدنا من هذا أن الحفاظ الذين ذكرهم وأضرابهم إذا قال أحدهم في حديث (لا أعرفه) أو (لا أصل له) كفى ذلك في الحكم عليه بالوضع، والله أعلم) (41).


(28) الموقظة (46).
(29) الجامع (2/ 172).
(30) تذكرة الحفاظ (3/ 948).
(31) تذكرة الحفاظ (2/ 627_628).
(32) الموقظة (77).
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير