وقد كان من أوائل من كتب في علوم الحديث (على استقلال وإفراد) الرامهرمزي (ت360هـ) في (المحدث الفاصل) والحاكم (ت405هـ) في (معرفة علوم الحديث)، ثم تتابع التصنيف بعدهما.
وقد أشارا إلى بداية حصول الضعف في زمانهما، فهذا الرامهرمزي يبين أنه ما ألف كتابه إلا للرد على من لمز أهل الحديث في عصره بما حصل منهم من خلل منهجي في طلبهم للعلم، حيث منهم من اهتم بـ (تتبع الطرق، وتكثير الأسانيد، وتطلب شواذ الأحاديث .. ) دون الاهتمام بمعانيه وفقهه، والوفاء بحقه من التهذيب والضبط والتقويم كما يقول الرامهرمزي (48).
وبعده الحاكم (ت405هـ) يقول في مفتتح (معرفة علوم الحديث): (أما بعد: فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت، ومعرفة الناس بأصول السنن قلت، مع إمعانهم في كتابة الأخبار وكثرة طلبها، على الإهمال والإغفال، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف ... ) (49).
وقد أشار إلى هذا الأمر غيرهما أيضاً، فهذا ابن حبان (ت 354هـ) يقول في مقدّمة (المجروحين): (ولم يكن هذا العلم في زمانٍ قطُّ تعلُّمُه أوجب منه في زماننا هذا، لذهاب من كان يُحسن هذا الشأن، وقلَّةِ اشتغال طلبة العلم به) (50).
فتأمل _ رعاك الله _ في تأريخ كتب علوم الحديث المفردة ومتى بدأت، وما سبب تصنيفها؟ .. ثم تأمل أيضاً في منهج مؤلفيها، واهتمامهم فيها بنقل مصطلحات أهل القرون السابقة وشرحها.
وهذا يؤكد ما ذكرته لك سابقاً من أن المعول عليه في هذا العلم هم أئمة الحديث المتقدمين، فهم الذين اعتنى العلماء بكلامهم، وصنفوا لأجله الكتب، وهم الذين ينبغي لمن بعدهم العناية به أيضاً.
إلا أننا نجد مع ذلك فيمن تأخر من أهل الحديث (وأعني بمن تأخر: من كان في القرن الخامس الهجري فما بعد) من غاب عنه هذا الأمر أحياناً، وحصل بسبب ذلك خلل منهجي في بعض ما كتبوه _ على تفاوت بينهم في ذلك _، ومن مظاهر ذلك الخلل وصوره:
1_ مشاحة (أهل الاصطلاح) في اصطلاحهم، وهي ما أسماها الشيخ الشريف حاتم العوني في كتابه المفيد (المنهج المقترح لفهم المصطلح): (فكرة تطوير المصطلحات)، حيث قال عنها: (وقبل شرح خطر هذه الفكرة: (فكرة تطوير المصطلحات)، فأنا أعني بفكرة تطوير المصطلحات: (تغيير معاني المصطلحات عما كانت تعنيه عند أهل الاصطلاح، عمداً،لأي غرضٍ يظنه ذاك المغير حسناً).
و (أهل الاصطلاح): هم الذين أنشؤوا ذلك العلم، ووضعوا قواعده وضوابطه، وتواضعوا على أسماءٍ لأفراده (هي المصطلحات)، وتمموا بناء علمهم. فلم يبق لمن جاء بعدهم إلا تلقي هذا العلم عنهم، وأخذ معاني مصطلحاته منهم، لفهم علمهم ويعي قولهم.
فإذا أقبل هذا الذي جاء بعدهم على علمهم بالتبديل، وبتغيير مدلولات المصطلحات، لا مع إعلان أن تلك المعاني الجديدة من عند نفسه وأنها اصطلاح خاص به، بل على أنها اصطلاح أهل الاصطلاح = فهل سيكون لنا طريق إلى فهم ذلك العلم، باعتماد كلام ذلك المبدل المغير؟!
فأعود مؤكداًَ: (فكرة تطوير المصطلحات) متعلقة بتغيير المعاني، مهما كان ذلك التغيير يسيراً، ومهما كان الغرض منه حسناً عند القائل به.
هذا الذي منه أحذر!
أما (تطوير) حدود المصطلحات ورسومها، تطوير ألفاظٍ لتلك التعاريف، لا يصل إلى تغيير مدلول المصطلح = فليس على هذا محظور، ولا هو من (فكرة تطوير المصطلحات) التي أحذر منها، بل هذا التطوير الذي يقصد إلى تحرير التعريفات بالجمع والمنع، أمر حسن في حدود ما لم يبلغ بنا إلى درجة التنطع والتكلف الذي يعانيه المناطقة، ونحن عنه في غنى. وحتى إن بلغ درجة التنطع والتكلف، فليس من (فكرة تطوير المصطلحات) في شيء، مادام أن الأمر لم يصل إلى محاولة تغيير معاني المصطلحات.
باختصار: (فكرة تطوير المصطلحات) تختص بتطوير معاني المصطلحات، لا بتطوير ألفاظ تعاريف تلك المصطلحات).
وأما الأمثلة على هذا الأمر فكثيرة أيضاً، وأحيلك فيها إلى الكتاب الآنف الذكر.
2_ إدخال أقوال أئمة الفقه والأصول والكلام في كتب علوم الحديث ..
وانظر في كتاب الكفاية للخطيب البغدادي وفي مقدمات بعض كتب البيهقي، وبعده مقدمة ابن الصلاح، ومن جاء بعده _ فجلهم له تبع _، فإنك تجد نقولاً كثيرةً عنهم.
¥