وإن كان المقصود بالمتواتر هو الجمع بين الكثرة العددية المجهولة كمّاً وكيفاً وبين القطع ـ وهو الذي يقصدونه ـ فالفساد كله في هذا الجمع؛ لأن الكثرة المجهولة لا تنتج القطع في جميع الأحوال، وإن أنتجته فإنه لا ينضبط بضابط، والمصطلحات العلمية تقتضي أن تكون ماهياتها وشروطها ونتائجها معلومة ومضبوطة، وإلا فهي مهملات لا يناط بها خسائس المصالح العلمية فضلًا عن نفائس الحقائق وغوالي المعاني وعوالي المفاهيم الشرعية؛ فهذا هو وجه الفساد في الجمع بين الكثرة العددية المجهولة وبين القطع.
والاختلاف في التعبير عن المتواتر وتعريفه، وتنوع عبارات العلماء في ذلك طيلة القرون السابقة كلُّه لأجل الخروج عن هذه المفسدة أو المشكلة التي أشرنا إليها، وهي لا زالت قائمة بتمامها، ولن تزول إلا بأحد الوجهين:
(1) إما أن يقال بأن المتواتر ما أفاد القطع، وبأي موجِب من موجِباته أفاد يعتبر متواتراً اصطلاحياً، ويتخلص من التخبط في الكثرة وحدها معه.
كما فعل الرازي في المعالم (ص/135) حيث قال: «شرائط التواتر ثلاثة , أحدها: أن يكون المخبر عنه محسوساً. والثاني: كون المخبرين بحالة يمتنع اتفاقهم على الكذب , وتلك الحالة المانعة عن إمكان الكذب قد تكون ببلوغ المخبرين في كثرتهم إلى حيث يمتنع اتفاقهم على الكذب , وقد تكون بحصول سائر القرائن».
حيث اعتبر الحالة المانعة عن إمكان الكذب بسبب سائر القرائن ـ دون حالة كثرة المخبرين ـ تواتراً اصطلاحياً.
ولكنه بهذه الصورة يخرج عن كونه حجة ملزمة، ويبقى عارضة من جملة العوارض الشخصية التي تعتري لأناس معينين لموجبات معينة كالفرح والغضب والسعال والإسهال والحمى ونحوها، فكما أن هذه لا يتكلف بتعديتها إلى الآخرين كذلك القطع الحاصل لبعض لا يُلزم به الآخرون.
(2) وإما أن يقال بأن المتواتر ما لا يقل عدد رواته عن عدد فلاني , كما قيل في تعريف المشهور والعزيز والغريب عند المحدثين، ويتخلص من التخبط في تحقيق القطع معه في جميع الأحوال.
وهو الذي يجب أن يقال، لاسيما وعند من يشترط في رواة المتواتر الإسلام والعدالة وغيرهما من الشروط.
وإلا فإما العدد لا ينضبط فيبطل مورد القسمة، وإما القطع لا يطرد فيبطل التفريق بينه وبين المشهور والعزيز والغريب؛ فيبقى التواتر لعبة شيطانية يلعب بها مرضى القلوب والعقل لصالح بدعهم وخرافاتهم، وقد لعبوا بذلك، بل لا يزالون يلعبون ويعبثون.
سادساً: إن الطريقة العلمية في قضية المصطلحات هي محاولة الوصول إلى النتائج عن طريق الأسباب والشروط والموجبات التي تقوم عليها معنوية الاصطلاح، كالوصول إلى صحة الحديث مثلًا عن طريق العدالة والضبط والاتصال وعدم الشذوذ والعلة، والوصول إلى وجود القياس عن طريق وجود أركانه من الحكم والأصل والفرع والعلة.
لا الوصول إلى الأسباب عن طريق تحقق النتائج؛ لأن الشروط والموجبات التي تتحقق بها النتائج هي التي تنسِّق المصطلحات لموقع الاعتبار والقياس وتضبِّطها بصفة الإحكام والانضباط، دون النتائج التي تتبعها الشروط والعلل في التعريف والإثبات والتحقيق.
فالذي يقول مثلًا بأنني لأجل صحة الخبر استدل على عدالة وضبط الرجال واتصال السند، أو لأجل وجود القياس استدل على وجود أركانه، لا يعتد به ممن يحمل في دماغه عقلية العلماء الموفقين.
فكذلك لا معقولية أبداً في رأي من يعتقد بأن المتواتر عبارة عن العدد الكثير والقطع ثم يقول: «بأننا بحصول العلم الضروري نستدل على كمال العدد، لا أنا نستدل بكمال العدد على حصول العلم».
كما قاله البخاري في كشف الأسرار (2/ 658) والجزري في جامع الأصول (1/ 122) والسبكي في جمع الجوامع مع الغيث الهامع (2/ 483)، والكاكي في جامع الأسرار (3/ 637)، والفناري في الفصول (2/ 215)، وابن الهمام في التحرير (ص/310) والقاآني في شرح المغني (ورقة /97) وآخرون كثيرون.
لأنه يلزم بذلك عدم انضباطه، والذي لا ينضبط بضوابط محكمة صالحة للاعتبار عند العامة يعتبر فائدة شخصية تصادف أناساً مختلفين بأسباب مختلفة، وأوقات مختلفة، ويفقد صلاحية الحجية تماماً؛ فلا تصلح أبداً أن يذكر لإلزام الخصم بإثبات شيء أو نفيه في مواقع الاحتجاج والاستدلال.
¥