سبحانك! هذا بهتان عظيم!!
ثم أقول (من عند نفسي): إن استحالة التواطؤ على الكذب، لا تتم ـ مع ذلك ـ ببعد البلدان بين الرواة، لاحتمال الرحلة واللقاء، ولاحتمال المراسلة! لكن تلك الاستحالة إنما تستفاد مما عرفناه (بالنقل المتواتر) من أحوال أولئك الأئمة، الدالة على: شدة التدين، وتعظيم الحرمات، والدفع عن حياض الشريعة، وجميل صفاتهم، وحسن سيرتهم في كل أمرهم. وهذا ليس فقط من الأئمة الكبار، بل حتى مع ثقات النقلة وعدول الرواة، لما عرفناه (بالنقل المتواتر أيضاً) من شدة الأئمة في توثيقهم، وبالغ تحريمهم في تعديلهم، واحتياطهم في احتياطهم لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم في كل ذلك!!
ثم بين لي الفرق في درجة اليقين بين: رواية عشرة من التابعين من بلدان مختلفة لحديث واحد، ورواية فقهاء المدينة السبعة لحديث واحدٍ أيضاً؟!
فإذا رجعنا إلى أن استحالة التواطؤ على الكذب راجعة إلى مافي كل واحدٍ من الرواة من الصفات الداعية إلى قبول خبره، رجعنا ـ إذن إلى أن المعتبر هو وجود هذه الصفات، دون ما سواها من الشروط التي لا معنى لا شتراطها، لأنه لا علاقة لها بإفادة تلك الاستحالة.
فإن قال صاحب تلك الشروط: أنا لا أشترط العدالة أصلاً في رواة (المتواتر).
قلنا: ذلك أدعى إلى أن لا يفيد خبرهم العلم عندك! لأنه إذا كان الخبر ـ عندك ـ لا يفيد العلم إلا باستحالة التواطؤ على الكذب ببعد البلدان، وبينا لك أن بعد البلدان ليس هو بالذي يدل على تلك الاستحالة في رواية الثقات العدول؛ فمن (باب أولى) أن لا يدل بعد البلدان على تلك الاستحالة في رواية غير العدول!!
فإن قال: إنما ذكرت (بعد البلدان) مثلاً لما يدل على استحالة التواطؤ على الكذب، وإلا فمرادي تحقق هذه الاستحالة، كيفما تحققت.
قلت: فبينا لك بطلان ذلك المثل، فهات غيره؟!
فإنه لا مفر لك من أن تزعم: أن استحالة التواطؤ على الكذب لا تتحقق إلا بالخبر الصريح: بأن فلاناً لم ير فلاناً ولا فلان لقي فلاناً، ولا تراسلوا أيضاً!! ومتى تقع على مثل هذا الخبر، وأنى تقف عليه، ليثبت بذلك خبر عندك؟!!!
ولا بد بعد ذلك أيضاً ـ على مذهبك في قبول الأخبارـ أن لا تقبل ذلك الخبر بنفي اللقاء والمراسلة، إلا أن يكون خبراً متواتراً على الشروط التي ذكرتها (على ما فيها)، ليتم عندك اليقين بصدق ذلك الخبر!!!
وأقول أخيراً: إن شرط (استحالة التواطؤ على الكذب) بمثل بعد البلدان، دليل على أن مشترطه الأول (ومن على شاكلته) في عزمه رد السنن كلها، حتى ما سماه بـ (المتواتر)! لأن تلك الاستحالة لا تستفاد مما زعم أنها تستفاد منه، كما قدمنا!!!
وذلك هو ما صرح به الإمام الدارمي، من نية وعزم صاحب ذلك التقسيم (إلى متواتر وآحاد)، كما سبق نقله عنه (36).
وهو ما صرح به أيضاً الحافظ ابن حبان البستي، كما سيأتي نقل كلامه (إن شاء الله تعالى) (37).
أما ثاني ردود الإمام الشافعي على ثاني شروط (المتواتر)، هو اشترط أن يرويه عدد كثير؛ فأنا أذكر مضمون رد الشافعي، وأحيل عليه. حتى لا أطيل بنقله، ثم بشرحه.
فأول ما بدأ الإمام الشافعي مناظرته مع ذلك الخصم، أراد أن يقرره بسبب اشتراط (العدد الكثير) أبين تقرير. فسأله الشافعي عما لو سمع هذا الخصم نفسه حديثاً من رجلٍ من أصحاب بدر، وهم المقدمون ومن أثنى الله تعالى عليهم في كتابه؛ فعلى مذهبه: لا يكون هذا الخبر حجة، لأنه خبر واحدٍ يمكن أن يتطرق إليه الغلط، ويرد عليه احتمال وقوع الخطأ.
إذن فـ (احتمال وقوع الغلط) من القوة، إلى درجة أن مشترط (العدد الكثير) لا ينتفي عنده هذا الاحتمال، حتى ولو سمع الخبر من أحد البدريين!! بل الذي يناظره الشافعي لا يحتج بذلك الخبر مطلقاً، لاحتمال وقوع الغلط فيه!!!
فبعد أن قرر الشافعي هذه القوة في ملاحظة (احتمال وقوع الغلط) عند خصمه، قال له: أليس من بعد البدريين وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أولى أن لا يكون خبر الواحد منهم مقبولاً، لنقصهم عنهم في كل فضل، وأنه يمكن فيهم الغلط ما أمكن فيمن هو خير منهم، وأكثر منه؟!
فقال له خصمه: بلى (38).
ثم حصر الإمام الشافعي وخصمه أيضاً صورة (العدد الكثير) في (المتواتر) في صورتين:
¥