الأولى: أن يروى الحديث بأسانيد مختلفة عن عددٍ من الصحابة، كل إسنادٍ منها منفرداً داخل في حد (خبر الواحد)، وبمجموعها داخلة في حد (المتواتر) عند الخصم.
والصورة الثانية: أن يروي أربعة (مثلاً) من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يروي عن كل واحدٍ منهم جماعة، ثم يرويه عن كل واحدٍ من هذه الجماعة جماعة أخرى .. وهكذا إلى أن يصل إلينا.
ثم بدأ يرد الشافعي على دعوى خصمه: استفادته العلم من هاتين الصورتين، لعدم احتمال وقوع الغلط فيهما عنده.
فبيان بطلان هذه الدعوى في الصورة الأولى هو:
أن الإمام الشافعي سأل خصمه: ألا يمكن أن يقع الغلط في أفراد تلك الأسانيد متفرقة، فيهم المدني في نقله عن المدني، والكوفي في نقله عن الكوفي، وهكذا؟
فإن أجاب الخصم باحتمال وقوع الغلط في أفراد تلك الأسانيد، لأنه من المحتمل أن يهم تابع التابعي على التابعي، والتابعي على الصحابي، والصحابي على النبي صلى الله عليه وسلم.
إن أجاب بإمكان الغلط في أفراد تلك الأسانيد، لزمه أن يقبل ويستفيد العلم من (خبر الآحاد)! لأنه استفاد العلم من خبرٍ يمكن في أسانيده أن يغلط كل راوٍ عمن فوقه، ومن فوقه عمن فوقه أيضاً، إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولم يقبل خبر الواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم خير ممن بعدهم.
قال الشافعي: فترد الخبر بأن يمكن فيه الغلط عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم خير الناس؟ وتقبله عمن لا يعدلهم في الفضل!! مع إمكان الغلط أيضاً في روايتهم (39)؟!!!
فإن قال الخصم: لكن الصورة المجموعة لتلك الأسانيد أبعدت احتمال الغلط.
قلت: استبعادك الغلط في تلك الأسانيد المجموعة، إنما جاء لاعتقادك أن الجماعة الذي رووا تلك الأسانيد، لا يمكن أن يتوارد خطؤهم على لفظٍ واحد. فأنت تقصد بـ (المتواتر) هنا (المتواتر اللفظي)، فهذا الذي تظن أن احتمال الغلط لا يتطرق إليه.
لكن أليس من المحتمل أن تكون تلك الأسانيد المتفرقة إسناداً واحداً، أو إسنادين، أو أكثر من ذلك مما لا يبلغ درجة إفادة العلم عندك؟
فإن قلت: لا
قلنا: لم؟! ألا يمكن أن يبدل أحد الرواة، راوياً بآخر، أو شيخاً بشيخ غلطاً، أو وصل مرسلاً مآله إلى موصولٍ لآخر، أو أسقط الراوي ـ سهواً أو عمداً (بالتدليس) ـ ضعيفاً، وهذا الضعيف كان قد ركب إسناداً على متن ... أو غير ذلك احتمالات الوهم.
ثم هل نسيت أن (استحالة التواطؤ على الكذب) ببعد البلدان: قد بينا لك أنها استحالة لا تستفاد من ذلك. إذن فيمكن في كل إسنادٍ من تلك الأسانيد أن يرد إليه احتمال الكذب المتعمد أيضاً، على مذهبك أنت!!
هذا كله فيما لو كان التواتر (لفظياً)، أما إذا كان (معنوياً)؛ فترد عليه الاحتمالات السابقة كلها، ويزاد عليها: احتمال الغلط في فهم الحديث، وفي سوء روايته بالمعنى، حتى أوهم توافق الأحاديث، وهي في الحقيقة أحاديث مختلفة، بمعانٍ لا يشهد بعضها لبعض!
فإن قلت: هذه الاحتمالات مع ورودها فهي بعيدة لاتفاق تلك الأسانيد مجموعة على الخبر، ومن ذلك استفدت العلم.
قلنا: إذن فاستفدت العلم مع ورود احتمال الغلط!! وإن زعمت بعده. لكن أبعد منه في احتمال الغلط، أن يروي لك الصديق أو الفاروق حديثاً، ثم تقول: لا أستفيد العلم لاحتمال الغلط!!!
فإن رجعت، والرجوع بك أحمد، فقلت: أستثني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قلنا فرجعت إلى اعتبار الصفات في الرواة، فاطرد في اعتبار الصفات إذن!!
ثم نحن لا نخالف في أن الحديث المتعدد الأسانيد قد يكون أقوى ن الحديث الغريب الذي ليس له إلا إسناد واحد، لكن عدم احتمال الغلط هو الذي جعلك استفدت اليقين بزعمك من الحديث المعدد الأسانيد؛ فها قد بينا لك أن احتمال وقوع الغلط وارد عليك فيما استفدت منه العلم أيضاً.
أما الصورة الثانية للمتواتر: وهي أن يروي جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، وعن كل واحدٍ من هذا الجمع جمع مثله أيضاً .. وهكذا.
قال الإمام الشافعي لخصمه عند ذكره الصورة: ((فهذا يلزمك، أفتقول به؟
قال: إذا نقول به، لا يوجد هذا أبداً.
(قال الشافعي:) فقلت: أجل!! (40).
نعم هذه الصورة عديمة الوجود!!
¥