5 - إن أظهر أدلة تساهل المتأخرين في هذا الباب هو أن كثيراً من الضعفاء لو جمعنا أحاديثهم التي صححها أو حسنها المتأخرون بمجموع طرقها إلى أحاديثهم الثابتة أصلاً، أعني التي ثبتت أصلاً بورودها بأسانيد أخرى صحيحة أو حسنة، أي من طرق رواة آخرين ثقات أو صدوقين، فضلاً عن طرق هؤلاء الضعفاء، أقول: لو جمعنا تلك الأحاديث وتدبرناها لكان مقتضاها إعادة النظر في تضعيفهم، بل لكان مقتضاها توثيقهم أو تصديقهم؛ ولاشك أن ذلك غير صحيح، لمخالفته لما تقرر - عند الأئمة - في حق هؤلاء الرواة من كونهم ضعفاء، بل كثير منهم مجمع على تضعيفهم.
ولا شك أن الأمر الذي أدى إلى مثل هذه الأحكام الباطلة باطل، ولا بد.
6 - علم التقوية بكثرة الطرق فرع من فروع علم العلل، ومسألة من صعاب مسائله، فهو خروج عن الأصل العام لأحاديث الراوي الضعيف إلى حكم استثنائي اقتضاه النظر المتبحر في الروايات الأخرى لذلك الحديث؛ وهو - بهذا - نظير تضعيف حديث الثقة، فهو - أعني تضعيف حديث الثقة - أيضاً حكم استثنائي اقتضاه النظر الفاحص المتعمق في الروايات الأخرى للحديث.
7 - إذا كان هذا الفن هو من فروع علم العلل، فهل معنى ذلك سد باب التقوية بكثرة الطرق لانعدام علماء العلل اليوم؟ [هذا على افتراض انعدامهم، وقد يكون هذا الافتراض هو الواقع].
الجواب: لا، لأن هذا القول يؤدي إلى إبطال البحث والاجتهاد في علم الحديث جملة وتفصيلاً، وهو قول باطل، فلازمه باطل مثله.
ولكني أقول: إن المسألة المعقدة المشكلة التي كان عالم العلل يتكلم فيها بطلاقة ويمر فيها كالسهم، قد يتمكن الباحث اليوم من دراستها وإصدار الحكم فيها، ولكن بشروط:
الأول: أن يكون قد فهم جيداً أصول علماء العلل وطرائقهم ومناهجهم واصطلاحاتهم.
الثاني: أن يتقي الله كثيراً ويتثبت التثبت الذي يستحقه الحكم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو - قطعاً - أخطر من الإفتاء، لو كانوا يعلمون!
الثالث: أن يجد من نفسه أنه من أهل الفطنة والذكاء والنباهة وقوة الملاحظة، وأن يشهد له بذلك الصادقون العارفون من مشايخه، أو غيرهم من أصحاب الشهادة المعتبرة.
الرابع: أن يتعب نفسه في البحث والتفتيش فيصل من ذلك إلى حد يرى أنه قد استوعب وجوه المسألة وأقوال علماء العلل فيها أو في بابها أو في أمثالها.
الخامس: أن يعلم ذلك الباحث أنه إذا تأهل فشارك في اكتشاف علل بعض الأحاديث، التي يرى هو أنه غير مسبوق إليها، فإنه ليس معنى ذلك أنه صار من علماء العلل، وإنما هو باحث في علم العلل، وحسْب.
فالحكم التعليلي الذي كان يطلقه الإمام أحمد أو أبو زرعة في دقيقة، ثم صار يُصْدره الخطيب البغدادي في دقائق أو ساعات، ثم صار ابن حجر يصدره في أيام: صار هذا الباحث يقدر على إصدار حكم مثله، ولكن بعد استقراء تام وتفتيش شامل واستعانة بأقوال العلماء وبحوث الباحثين، وقد يستغرق ذلك منه أياماً طويلة، وربما أشهراً كثيرة، بل ربما رجع بعد كل ذلك البحث الدائب المتواصل بخفي حنين، أو صرح بالتوقف في المسألة أو العجز عن معرفة وجه القول فيها.
فإذن لا بد من التثبت والتحري والتوقف طويلاً قبل أن يخوض المرء في مثل هذه العلوم الصعبة، فأين علم العلل وأين أهله؟!
هذا ما أردت تلخيصه من وجهة نظري في هذه المسالة، ولعل في هذا التلخيص إجابة لما ذكرتَه، أو إيضاحاً لما كنتُ أبهمتُه؛ ومن الله التوفيق.
"
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[24 - 03 - 06, 07:45 م]ـ
جزاكم الله خيرا
وقد أردت التنبيه على أمر متعلق بهذه المسألة
وهو أن تصحيح أو تحسين الحديث بمجموع طرقه لا يلزم منه أن يوثق الراوي أو يصحح حديثه بخصوصه، وذلك لأن التصحيح أو التحسين بمجموع الطرق قد يكون للجزء المتفق عليه من النصوص بين أولئك الرواة جميعا بخلاف ما انفرد به كل منهم على حدة، وهو ما يسميه أهل المصطلح بالشاهد، فمثلا لو افترضنا أن عشرة من الرواة الضعفاء قد روى كل منهم حديثا وكان نص كل منهم يختلف عن الآخر، فلو افترضنا أن علماء العلل الأقدمين حكموا على هؤلاء الرواة جميعا بأنهم ضعفاء لكثرة مخالفاتهم للثقات في الروايات، فإننا قد نلاحظ أيضا أن هذه الروايات المختلفة قد تتفق في جملة أو في بعض النص، ومن هنا يكون بعضها شاهدا لبعض، ويكون ذلك دلالة على أن الخطأ الذي وقع من الراوي ليس في هذه الجزئية من النص وإنما هو في جزئية أخرى، لأنه - كما هو معلوم - لا يشترط أن يخطئ الراوي في جميع النص حتى يحكم بأنه أخطأ.
فإذا كان ذلك صحيحا فإنه يمكن في هذه الحالة تقوية هذه الجزئية من النص فقط بورودها من رواية بعض الضعفاء الآخرين كما يفعل كثير من المتأخرين كالحافظ ابن حجر وغيره.
ولا يلزم من ذلك أن يكون الراوي الضعيف ثقة أو لا بأس به؛ لأنه قد تبين خطؤه في جزء آخر من النص الذي رواه.
هذا ما خطر لي، وسؤالي للمشايخ الكرام أن يبينوا لي إن كان فهمي صحيحا أو سقيما.
وجزاكم الله خيرا
¥