(((قلت: ابن معين هنا لم يقل: (لا يكون حجة فيما عنعن ولكنه قال كما ترى (فيما دلس)؛ وبين العبارتين فرق؛ فابن معين كان حكيماً في هذا الجواب؛ وحاصله أن المدلس لا يكون حجة في حديث بعينه من أحاديثه المعنعنة، إذا علمنا أنه قد دلس في ذلك الحديث سواء كان ذلك العلم قطعياً منقولاً عن مطلع؛ أو كان ظنياً بالغاً درجة من الظن تمنع من الاحتجاج به وتلحقه بما دلسه من الأحاديث؛ وأهل العلل لهم وسائلهم في التمييز ومعرفة التفاصيل في كثير من الأحيان، ولذلك فإنهم كثيراً ما يستغنون عن الاستناد إلى القواعد العامة، لمعرفتهم للمسألة الفرعية بخصوصها؛ والخاص مقدم على العام))).
2 - قال أبو داود: (سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس يحتج فيما لم يقل فيه سمعت؟ قال: لا أدري؛ فقلت: الأعمش متى تصاد له الألفاظ.
قال: يطيق هذا، أي أنك تحتج به).
(((قلت: قوله (لا أدري) قد يُفهِم أن المسألة خلافية، وهذا الفهم قد يصح وقد لا يصح؛ ولكن الذي أراه يصح أن الأمام أحمد أشار بهذا الجواب إلى أن الأمر يختلف من راو إلى راو ومن ناقد إلى ناقد ومن حديث إلى حديث؛ وهذا من كمال علم الإمام أحمد، وهو مثال من المُثُل الدالة على عظمة علم علماء العلل؛ بخلاف من يحكم على عنعنة كل مدلس بحكم كلي يجمد عليه))).
3 - وقال يعقوب بن سفيان الفسوي: (وحديث سفيان ـ يعني الثوري، وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة).
(((قلت: يعني أن الأصل في حديثهما القبول ما لم يقم دليل أو قرينة على التدليس؛ سواء كان ذلك على سبيل القطع من الناقد المتمكن أو على سبيل الظن الغالب منه أيضاً لا من غيره؛ فظنون غير العلماء كثيراً ما تكون أوهاماً. وإنما كان الأصل فيهما ذلك لقلة تدليسهما عند العلماء أو على الأقل عند يعقوب بن سفيان نفسه))).
4 - وقال ابن عبد البر: (وقتادة إذا لم يقل سمعت وخولف في نقله فلا تقوم به حجة لأنه يدلس كثيراً عمن لم يسمع منه وربما كان بينهما غير ثقة).
قلت (سيف):هذا الكلام مشكل- وخارج الموضوع محل المناقشة- لأنه منصب على من دلس عمن لم يسمع منه اصلا وهو خلاف ما ترجح من ان المكثر من هذا النوع من التدليس المشهور به -الارسال الخفي- لا نثبت له لقاء الا بتصريحه ولو في حديث واحد انه سمع من شيخه في الحديث (كفعل ابن المديني والبخاري في رواية الحسن عن ابي بكرة وكذا يستفاد من كلام الامام مسلم في مقدمته عمن شهر بالتحديث عمن لم يسمعه اصلا. والله اعلم.
(((قلت: الذي يظهر لي هو أن ابن عبد البر لم يرد بعبارته المستشكلة (لأنه يدلس كثيراً عمن لم يسمع منه) الإرسال الخفي، ولكنه أراد التدليس؛ وقد وقفت على عبارات غير قليلة للعلماء بمثل عبارة ابن عبد البر هذه، فتراهم يقولون (فلان يدلس عمن لم يسمع منهم) ويريدون أنه يدلس فيروي عن شيوخ له ما لم يسمعه منهم، أو يروي عمن يُظن من شيوخه وليس من شيوخه؛ ويقولون: (فلان يدلس شيوخه) أي لا يذكرهم ويذكر من فوقهم ممن هو من شيوخه أيضاً، و يقولون: (فلان يدلس عن شيوخه) أي يدلس فيما يرويه عنهم، ويقولون: (فلان يدلس أحاديثه) وهكذا؛ فليس مراد ابن عبد البر الإرسال الخفي؛ إلا إذا كان بعض الإرسال الخفي داخلاً عنده في التدليس بسبب شدة خفائه؛ وهو مذهب لا أراه بعيداً عن الصواب؛ ولكن المعروف من شأن قتادة هو التدليس))).
5 - ابن حزم من (الإحكام): (وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلس إلا ما قال فيه حدثنا أو أنبأنا وهذا خطأ وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلس المنكرات إلى الثقات إلا ما صح فيه تدليسه وبهذا نقول وعلى كل ما ذكرنا البرهان).
وقال ايضا: وسواء قال: أخبرنا فلان، أو قال: عن فلان، أو قال: فلان عن فلان، كل ذلك واجب قبوله ما لم يتيقن أنه أورد حديثاً يعينه إيراداً غير مسند فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته، وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال: ((كان معمر يرسل لنا أحاديث فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له))، وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري وأبي الزبير وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وقد أدخل علي بن عمر الدا قطني فيهم مالك بن أنس ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى).
¥