(((قلت: مذهب ابن حزم في أحكام التدليس مخالف لمذهب أهل الحديث، ففيه نظر؛ وانظر (دراسات في منهج النقد عند المحدثين) للدكتور محمد علي قاسم العمري (ص123) فقد ذكر أن من مخالفات ابن حزم أنه يرى الحكم بعدالة الراوي يستلزم ثبوت سماعه لما يرويه، لأن الأصل فيما يراه، أي ابن حزم، هو أن العدل لا يحدث إلا بما سمع (إحكام الأحكام 2/ 21 و146)؛ ثم ذكر العمري أن ابن حزم قد تناقض في رده لحديث المعازف بدعوى عدم الاتصال))).
6 - قال يعقوب بن شيبة: (وسألت علي بن المديني ـ عن الرجل يدلس ـ أيكون حجة فيما لم يقل حديثاً؟
فقال: (إذا كان الغالب عليه التدليس فلا).
(((قلت: هذا هو الأصل؛ ولكن ليس بمطرد؛ والإمام علي بن المديني؛ لم يرد مفهوم المخالفة؛ ثم إنه - على تقدير إرادته له - لا يعمل به على إطلاقه؛ بل هو ذكر أصلاً واحداً مهماً من أصول التفريق بين روايات المدلسين ولم يستوف كل الأصول والفوارق؛ ولا عمد إلى الاستيفاء والتفصيل، وهذا هو الشأن الغالب على كلام المتقدمين؛ وكلام العلماء يبين ويقيد ويخصص بعضه بعضاً))).
7 - اخراج الشيخين في صحيحهما كثير من روايات المدلسين أمثال ابي اسحاق وقتادة عمن لا يعرف عنهم انهم صحبوهم طويلا وكذا عمل اصحاب الصحاح الأخر وتصحيح بعض الائمة كالترمذي وغيره لمثل هذه الأحاديث.
(((قلت: أما الشيخان فهما جاريان في أحكامهما على أحاديث المدلسين على طريقة أئمة الحديث وعلماء العلل، وهما منهم؛ وأما غيرهما من أصحاب الصحاح فمنهم المعتدل في أحكامه على روايات المدلسين؛ وهو مع ذلك يخطئ أحياناً؛ ومنهم المتساهل في أحكامه أعني في روايات المدلسين))).
عكر على هذا كله عندي قول الامام الحميدي شيخ البخاري
فقال:
8 - قال عبد الله بن الزبير الحميدي: (وإن كانم رجل معروفاً بصحبة رجل والسماع منه مثل ابن جريج عن عطاء أو هشام بن عروة عن أبيه وعمرو بن دينار عن عبيد بن عمير ومن كان مثل هؤلاء في ثقتهم ممن يكون الغالب عليه السماع ممن حدث عنه فأدرك عليه أنه ادخل بينه وبين من حدث رجلاً غير مسمى أو أسقطه ترك ذلك الحديث الذي أدرك عليه فيه أنه لم يسمعه ولم يضره ذلك في غيره حتى يدرك عليه فيه مثل ما أدرك عليه في هذا فيكون مثل المقطوع).
وقد أجاب عليه صاحب منهج المتقدمين بقوله (فإن قيل: ولكن مفهوم كلام الحميدي أن هذا خاص فيمن يروي عن غيره وأكثر روايته سمعها منه.
فالجواب: أنه مثل على ذلك أيضاً برواية عمرو بن دينار وهشام بن عروة أيضاً.
وهؤلاء لم يقل أحد أن روايتهم التي لم يصرحوا فيها بالتحديث غير مقبولة سواء عمن أكثروا عنهم أو لا).
قلت (سيف):لم أفهم موطن الالزام
(((قلت: كلام الحميدي مستقيم لا غبار عليه، ولا أراه يعكر على ما معنى ما تقدم من عبارات العلماء؛ إلا إذا أريد بأن الذي يعكر هو تعليق صاحب (منهج المتقدمين) جزاه الله خيراً، وهو إنما ساق هذا الكلام في معرض استدلاله وتأييده لما ذكره في كتابه أعني قوله (إن المتتبع لأحكام المتقدمين على أحاديث المدلسين بجدهم مخالفين للمتأخرين تماماً في مسألة الحكم على عنعنة المدلس، فلا تجد حديثاً رده المتقدمون لمجرد العنعنة فقط، بل لا بد فيه من وجود التدليس فعلاً، أو علة حملوها على العنعنة ـ كما يستضح إن شاء الله تعالى ـ، بخلاف المعاصرين الذين يكتفون بمجرد رؤية الإسناد ثم يقولون (ضعيف فيه فلان وهو وإن كان ثقة إلا أنه مدلس وقد عنعن!!!!
والحكم على عنعنة المدلس ليس لها ضابط مطرد، بل هو كأغلب أحكام المتقدمين يعتمد على السبر وتتبع الروايات والنظر في أحوال الرواة والمتون، إلا أنه من الممكن استخلاص بعض الأحكام العامة في ذلك كما يلي:
أعلم أولاً أن الرواة المتهمين بالتدليس على قسمين:
القسم الأول: من أكثر من التدليس جداً وكان غالباً على حديثه، فمن كانت هذه صفته فإن الحكم في روايته التوقف حتى يثبت الاتصال لأن الغالب عليه التدليس، وليس في الثقات الحفاظ أحد هذه صفته، بل يوجد فيمن ضعفوا أو فيمن صفتهم الصدق وإن كان قد تكلم فيه بعض الأئمة كبقية بن الوليد والحجاج بن أرطأة وأبي جناب الكلبي ونحوهم، وكثير من هؤلاء إنما ضعفوا لأجل التدليس، وهؤلاء ليسوا محل بحثنا هنا.
القسم الثاني: من دلس أحياناً أو كثيراً ولكن لم يغلب على حديثه كالقسم السابق، فحكمه أن روايته الأصل فيها الاتصال حتى يتبين الانقطاع أو التدليس مهما كانت الصيغة (التحديث أو العنعنة أو غيرها)، وهؤلاء هم الحفاظ كقتادة والأعمش وهشيم والثوري وابن جريج والوليد بن مسلم ونحوهم). انتهى.
فهو قد جعل الأمثلة التي ذكرها الحميدي قرينة على أن الحكم الذي ذكره (وهو قبول عنعنة بعض المدلسين ما لم يقم دليل على أنه دلس في حديث بعينه فيرد ذلك الحديث دون غيره) ليس مقصوراً على المدلسين الملازمين لشيوخهم وقد سمعوا منهم أغلب ما رووه عنهم، بل هو شامل لمن هم على غير هذه الصفة أيضاً؛ كهشام بن عروة عن أبيه وعمرو بن دينار عن عبيد بن عمير، ولكن في هذا القول من الفاضل المحقق البارع صاحب (منهج المتقدمين) نظر لا يخفى على من تدبر عبارة الحميدي ودرس صفة تدليس هؤلاء المذكورين للتمثيل؛ ولعل هذا هو ما عناه الأخ (سيف) بقوله (لم أفهم موطن الإلزام)؛ والله أعلم))).
¥