تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الثانية: طائفة أخرى من المدلسين الأصل فيهم عكس ذلك.

الثالثة: طائفة ثالثة وهي قليلة جداً؛ وذلك أنه ربما يكون في المدلسين من لا يسهل إلحاقه بأحد هذين الفريقين فيكون الأصل في عنعنته التوقف فلا نحكم لها باتصال ولا انقطاع إلى أن يأتي من الأدلة والقرائن ما يرجح الحكم بأحد الأمرين؛ وهذه هي الطائفة الثالثة؛ وقد تنعدم عند بعض العلماء والباحثين في حين انها موجودة عند غيرهم؛ فإن سبب وجودها عند من يراها موجودة هو الاحتياط والتثبت أو التقصير في الاستقراء أو القصور في المعرفة؛ وذلك قلَّ في المتأخرين من يسلم منه؛ ولذا ذكرتها.

فلا ينبغي أن يكون لنا في المدلسين كلهم أصل واحد ثابت مثل قول من يقول: الأصل في عنعنة المدلس الحكم عليها بالانقطاع ما لم يقم دليل على سماعه؛ أو قول من يقول: الأصل في أحاديث المدلس الاتصال ما لم يقم دليل في حديث بعينه أنه دلسه؛ أو الأصل التوقف.

بل ينبغي أن نجعل كل راو مدلس تحت الأصل الذي يناسبه ويليق بحاله.

وحتى المدلس الواحد أحرص على أن أجد في عنعنته تفصيلاً وكلاماً لأئمة الحديث وعلماء العلل، مثل أن يفرقوا بين عنعناته بحسب شيوخه، أو بحسب الرواة عنه أو بحسب باب الحديث أو زمان التحديث به أو بلده.

ثم إن الرواة الذين نجعلهم تحت أحد هذه الأصول الثلاثة لا ينبغي المساواة بينهم في سرعة الخروج بهم عن ذلك الأصل بالقرائن المقتضية للخروج؛ أو في قوة الجمود على الأصل؛ بل نعامل كلاً منهم بما يليق به؛ وطريقة أهل العلل ومن تبعهم التفصيل والتخصيص قدر الإمكان، ولا يصيرون إلى الإجمال والتعميم إلا عند الحاجة إليهما لفقدان ما يغني عنهما من الأمرين المذكورين، أعني التفصيل والتخصيص.

وأما سبب التفريق بين المدلسين وتقسيمهم إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة فأمور كثيرة منها:

1 - قلة التدليس أو كثرته.

2 - طول الملازمة أو عدمها.

3 - إمامة الراوي أو بعده عن رتبة الإمامة.

4 - نظافة الأحاديث أو ضدها.

5 - كثرة الغرائب والأفراد أو قلتها.

6 - الحال الغالب على شيوخ المدلس من حيث القوة والضعف.

7 - تثبت المدلس في رواياته وعدمه.

وأمور أخرى كثيرة ليس هذا موضع استقصائها.

*****

وأما قولك: ما هو حد هذا الظن الغالب؟ فأنا أريد بالظن الغالب العلم الذي بلغ من القوة مبلغاً يكفي للاعتماد عليه والترجيح به، ولكنه لم يبلغ درجة القطع واليقين.

وأما مرادك بالحد فإني لم أفهمه؛ ودرجات العلم مسائل وجدانية يصعب تحديد مقاديرها، كسائر الأمور الوجدانية كالفرح والحزن والأمن والخوف؛ ولكن يجدها المرء ويحس بها ويحس هو نفسه – دون غيره – بمقدارها؟

إذا رأيت المحدثين قد اختلفوا في حديث فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه، ثم غلب على ظنك صحة قول المصححين فرجحت قولهم واخترته وصححت الحديث؛ فما هي حدود ذلك الظن الذي كان مستندك في تصحيح الحديث؟

ثم إني أسأل سؤالاً لعل فيه بعض ما يوضح غامضاً أو يزيل لبساً، أو يسد خللاً؛ فأقول:

أنت قلت: (فأنا أرى قبول العنعنة من المدلس حتى يتبين لي تدليسه في حديث بعينه).

لا شك أن قولك (حتى يتبين لي---) معناه (حتى أعلم----).

فهل أنت تشترط - للخروج عن أصلك الذي ذكرت أنك تراه - العلم القطعي بوقوع التدليس فأخالفك - وسلفي في هذه المخالفة كل علماء العلل –؛ أو مرادك اشتراط مطلق العلم بوقوع التدليس، فأوافقك – وسلفنا في هذا المذهب كل علماء العلل -؟

وأعني بمطلق العلم هنا العلم القطعي اليقيني والعلم الظني المعتبر.

وأما سبب مخالفتي لك - على الاحتمال الأول – هو أن حصول العلم اليقيني بوقوع التدليس أو العلم اليقيني بعدم وقوع التدليس غير ممكن إلا في أحاديث قليلة منقولة؛ فلا يصح واحد منهما أن يكون أصلاً للحكم في هذه المسألة أعني عنعنة المدلسين؛ وإنما الذي يصلح أن يكون أصلاً هو ما كان غالباً.

لماذا كان الأصل في الرواة الثقات عدم التدليس؟

الجواب إن السبب في ذلك أمران:

الأول: كون غير المدلسين من الثقات أكثر من المدلسين منهم.

الثاني: أن النقاد التزموا – في الجملة – وصف المدلس بالتدليس؛ فهم ينصون على التدليس؛ والمدلس الذي يسكت عن تدليسه بعض النقاد يصفه به آخرون.

أقول هذا من أجل زيادة البيان، وإلا فالتحقيق أن هذا السبب الثاني فرع عن السبب الأول؛ فالمحدثون لم يبينوا إلا ما خرج عن الأصل والحكم الغالب؛ وهذا شأن أهل كل علم؛ يذكرون أصول المسائل، ثم ينصون على ما خرج عنها؛ وهو مقتضى الحكمة وحسنِ التصرف؛ لأن العكس شاق جداً ولا معنى لاختياره دون هذا.

فبسبب الأصل المذكور، كان الراوي الثقة إذا ترجمه العلماء ولم يذكره أحد منهم بتدليس: معدوداً في غير المدلسين؛ فلا شك أن سكوتهم عن وصفه بالتدليس يكفي لانتفاء التدليس عنه؟ ولا حاجة لتصريحهم بانتفاء تدليسه.

هكذا كان الأصل في الثقات عدم التدليس؛ وكان معناه ما تقدم بيانه.

أرجع بعد هذا التمهيد، أو التقريب والتمثيل، إلى محل النقاش فأقول:

لو وجدنا العلماء قد نصوا على كل – أو معظم – الأحاديث التي عنعنها المدلسون ودلسوها؛ [ودعني أعبر بطريقة أخرى فأقول: لو وجدنا العلماء قد نصوا على كل – أو معظم – الأحاديث التي دلسها الرواة] فحينئذ يصح أن نؤسس قاعدة متينة أو نتخذ أصلاً أصيلاً وهو ما اخترته أنت – بارك الله فيك – فنقول معك: نقبل عنعنة المدلس ما لم يتبين لنا في حديث بعينه أنه دلس فيه.

فهل توافقني على هذا التأصيل؟

****

انتهى تعليقي على هذه المسألة؛ وأذن لي أخي الفاضل بأن أخبرك بأني نويت الآن الاكتفاء بهاتين المشاركتين دون أن أضيف إليهما في المستقبل من الوقت مشاركة أخرى في نفس الموضوع إلا أن يشاء الله شيئاً؛ واخترت هذا التوقف لأمور تخصني؛ ولما قررت أن تكون هذه المشاركةُ الأخيرةَ رأيت أن أسهبَ في البيان، وأفصل قدر الإمكان، عسى أن تستبين وجهة نظري.

أشكرك على بحثك وأدبك واعتذر إليك مما أخشى أن يكون قد وقع مني من كبوة قلم أدت إلى تقصير في حقك؛ ولعل شيئاً من ذلك ما كان؛ والله الموفق، وهو المستعان.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير