ثم إن معرفة مناهج علماء العلل والرجال تتوقف على أمور كثيرة منها مشاركتهم في فنهم، وكثرة الممارسة له، وعمق الغوص على أسراره؛ ومنها معرفة شروط الكلام في الرواة والأحاديث ومنها معرفة مادة الأئمة في ذلك.
إن خطورة وصعوبة نقد الناقد لغيره من النقاد وبيان مسالكهم في فنهم ومناهجهم في نقدهم لا تعرفان إلا بمعرفة صعوبة علم نقد الأحاديث ورواتها؛ فمن لم يعلم ذلك هجم وتسرع وتجرأ وتساهل، فإن من جهل شيئاً عاداه فذمه أو استصعبه فتركه أو استسهله فهجم عليه، وأما من علم عظمة هذا الشأن وشدة خطره فإنه حينئذ لن يهجم على حكم على حاكم أو يتسرع في نقد ناقد أو يستسهل مخالفة إمام أو تخطئته، بل يكون شأنه في ذلك التروي والتريث وحاله فيه التأني والتثبت.
لذا كان لا بد في هذا الباب، باب دراسة مناهج النقاد، من التخصص والتعاون والمدارسة والتشاور، وانتفاع اللاحق بالسابق وتوسعة الاطلاع وتعميق البحث، ولا بأس عندي من أن يقوم بدراسة منهج العالم الواحد أكثر من باحث بحيث لا يعتمد أحدهما على الآخر، ولا مانع من الاستفادة والمناقشة، وتتابع الدراسات للموضوع الواحد قد تبين المجمل وتفتح المقفل وتزيد الواضح إيضاحاً، وتستبدل بالخطأ صواباً وبالقول الفاسد صلاحاً.
وهذا الأمر أعني تكرر الدراسات لمناهج العلماء يتأكد في حق المكثرين من النقاد كابن معين وأبي حاتم وابن عدي وابن حبان.
(5)
(((فضل المتقدمين من علماء الجرح والتعديل على المتأخرين في الجملة)))
قال السخاوي في (الإعلان بالتوبيخ) (ص353) عاطفاً على جماعة ذكرهم، وهم كثير من النقاد من عصر الصحابة إلى عصره:
(---وآخرون من كل عصر، ممن عدل وجرح ووهن وصحح؛ والأقدمون أقرب إلى الاستقامة وأبعد عن الملامة ممن تأخر، وما خفي أكثر).
وقال الذهبي في ترجمة أبي بكر الاسماعيلي من (التذكرة) (3/ 948):
(وله معجم مروي، وصنف الصحيح وأشياء كثيرة من جملتها مسند عمر رضي الله عنه، هذبه في مجلدين، طالعته وعلقت منه، وابتهرت بحفظ هذا الإمام، وجزمت بان المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة).
(6)
(((كتب الأسماء والأنساب)))
قال الدكتور مصطفى جواد في مقدمة طبعته لكتاب (تكملة إكمال الإكمال) لابن الصابوني (ص26 - 27 من المقدمة) بعد كلام كثير ذكر فيه كتب فن المؤتلف والمختلف ونحوها: (وهكذا نجد المصنفين في هذا الفن العسير الخطير الذي لا يقدم عليه إلا الفَوَقَة المهرة في التاريخ والأنساب والجمع والتقصي والبحث والتحري أفراداً معدودين وأفذاذاً متميزين، على تطاول العصور، بلْهَ أن منهم المقلد والساعي على أثر غيره والمقدم والمؤخر؛ وفي (بغية الوعاة) لجلال الدين السيوطي نرى شيئاً مختصراً من المؤتلف والمختلف للنحويين، ومختصراً للمتفق والمفترق ---- وهو قليل جداً؛ وتضاءلت الهمم بعد السيوطي فصار الكلام في هذا الفن أندر من النادر، إلا في بابه، كما نرى في (تاج العروس) شرح القاموس فقد ذكر السيد مرتضى الزبيدي الأنساب والألقاب في موادها كما فعل الفيروزابادي في القاموس بعينه؛ وهذا لا يعد من المؤتلف والمختلف، بل من الأنساب والأسماء والألقاب على طريقة أبي سعد بن السمعاني وعز الدين علي بن الأثير، ذاك في أنسابه، وهذا في لبابه).
وقال المعلمي في مقدمة (أنساب السمعاني) (1/ 7):
(يطلق فن الأنساب على ما يذكر فيه أصول القبائل وكيف تفرعت، كنسب عدنان، يذكر فيه أبناء عدنان، ثم أبناؤهم وهلم جراً؛ ويطلق أيضاً على جمع النِسب اللفظية، كالأسدي والمقدسي والنجار ونحو ذلك، ويضبط كل منها ويبين معناها ويذكر بعض من عرف بها.
وهذا الثاني هو موضوعنا؛ قال ابن الأثير في خطبة (اللباب) في ذكر هذا الفن: (هو ما يحتاج طالب العلم إليه، ويضطر الراغب في الأدب والفضل إلى التعويل عليه، وكثيراً ما رأيت نسباً إلى قبيلة أو بطن أو جد أو بلد أو صناعة أو مذهب أو غير ذلك؛ وأكثرها مجهول عند العامة غير معلوم عند الخاصة، فيقع في كثير منه التصحيف، ويكثر الغلط والتحريف). انتهى كلام المعلمي.
¥