قال الخطيب: (وإنما شبهت العلم بالنار، لما روينا عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما وجدت للعلم شبهاً إلا النار نقتبس منها ولا ننتقص عنها).
قلت: إن ما تقدم لا يختص به علم الحديث وحده، بل هو شأن العلوم الشرعية الأخرى، كالفقه والتفسير ولغة الوحيين ونحو ذلك من العلوم التي يكون الأصل فيها أن يبتغى بها وجه الله تعالى.
وقد تكلم الخطيب في (الجامع) أيضاً على مسألة النية في الطلب فقال (1/ 80 - 81): يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه ويكون قصده بذلك وجه الله سبحانه.
ثم روى عن وكيع قال: (سمعت سفيان يقول: ما شيء أخوف عندي منه يعني الحديث وما من شيء يعدله لمن أراد الله به)؛ وقد تقدم هذا الأثر.
ثم روى (1/ 83) عن عبد العزيز بن أبي رزمة قال: (أتينا إسرائيل مع نفر من أهل خراسان فسألَنا؛ قلنا: نحن من أهل مرو؛ فقال: مرو أم خراسان، فإن استطعتم أن لا يكون أحد أسعد بما سمعتم منكم، فافعلوا؛ من طلب هذا العلم لله تعالى شرف وسعد في الدنيا والآخرة؛ ومن لم يطلبه لله خسر الدنيا والاخرة).
ثم قال الخطيب (1/ 83): (وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض [لعلها الأغراض]، وطريقاً إلى أخذ الأعواض؛ فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه).
ثم روى (1/ 84) عن اسحق بن عيسى بن الطباع قال: قال حماد بن سلمة: (من طلب الحديث لغير الله مكر به).
ثم روى (1/ 85) عن ابن المبارك قال: (قيل لسفيان: من الناس؟ قال: العلماء، قيل: فمن السفلة؟ قال: الظلمة، قيل: فمن الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الحديث يأكلون به [أموال] الناس، قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد).
قال الخطيب: (وليتق المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة واتخاذ الاتباع وعقد المجالس، فإنَّ الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه).
ثم قال (1/ 87): (وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل وحامل للحديث ليس معه منه شيء؛ إذ كان في اطِّراحه لحكْمه [يعني عدم العمل به] بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه).
ثم روى (1/ 88) عن عبد الله بن المبارك قال: (من طلب الحديث وكتب ليُكتبَ عنه فلا يجد رائحة الجنة).
ثم روى (1/ 90) عن سفيان بن عيينة أنه قال: (إنما منزلة الذي يطلب العلم ينتفع به بمنزلة العبد يطلب كل شيء يرضي سيده، يطلب التحبب إليه، والتقرب إليه، والمنزلة عنده، لئلا يجد عنده شيئاً يكرهه)؛ وأنه قال: (إن أنا عملت بما أعلم فأنا أعلم الناس؛ وإن لم أعمل بما أعلم فليس في الدنيا أحد أجهل مني).
وروى (1/ 90) عن عبد الله بن المبارك عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال: قال أبو الدرداء: (من عمل بعشر ما يعلم علمه الله ما يجهل).
وانظر لزاماً الفائدة التالية.
**********
(42)
بيان المعلمي لمعنى ما ورد من أقوال الأئمة مما ظاهره ذم طلبة الحديث
روى الخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السمع) (1/ 77 - 78) منتقداً كثيراً من المنتسبين إلى هذا العلم الشريف من أهل عصره وغيرهم ممن جاءوا بعد العصور الخيرية الفاضلة: (وهم مع قلة كتبهم له وعدم معرفتهم به أعظم الناس كبراً وأشد الخلق تيهاً وعجباً لا يراعون لشيخ حرمة ولا يوجبون لطالب ذمة، يخرقون بالراوين ويعنفون على المتعلمين، خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه؛ وقد وصف أمثالهم بعض السلف).
ثم روى في ذلك المعنى عن عمرو بن الحارث وحماد بن سلمة كلاماً لهما.
ولقد أحسن العلامة المعلمي رحمه الله في توجيه هذا المعنى ونحوه مما ورد في كلام بعض المحدثين مما ظاهره ذم المشتغلين بالحديث فقال في (الأنوار الكاشفة) (ص286 - 287):
(وذكر [أبو رية] عن الثوري "لو كان الحديث خيراً لذهب كما ذهب الخيرُ".
أقول: لم يقصد نفي الخير عن هذا الحديث نفسه، كيف والقرآن خير كله ولم يذهب؛ ولا عن طلب الحديث جملة؛ فإن المتواتر المعلوم قطعاً عن الثوري خلاف ذلك؛ وإنما قصد أن كثيراً من الناس يطلبون الحديث لغير وجه الله وذلك أنه رأى أن الرغبة في الخير المحض لم تزل تقل، كانت في الصحابة أكثر منها في التابعين، وفي كبار التابعين أكثر منها في صغارهم وهلم جراً، وفي جانب ذلك يعني أن كثيراً ممن يطلب الحديث يطلبه ليذكر ويشتهر ويقصده الناس ويجتمعوا حوله ويعظموه.
¥