بسبب أخذ يحيى بشيء من التشدد والاحتياط في اختيار شيوخه وفي نقد رجال الحديث وقع طرف يسير من الاختلاف في الحكم على الرواة بينه وبين أخيه ورفيقه وقرينه ونظيره الإمام عبد الرحمن بن مهدي ولكن الأمر في هذا سهل فهو اختلاف اجتهادي سائغ كغيره من وجيه اختلاف أهل العلم بينهم.
قال المعلمي اليماني في (الأنوار الكاشفة) (ص305) رداً على أبي رية القائل: (ربَّ راو هو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي ومجروح عند يحيى بن سعيد القطان وبالعكس، وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل ومن عندهما يتلقى معظم شأن الحديث) (3):
(أقول [القائل المعلمي]: الغالب اتفاقهما، والغالب فيما اختلفا فيه أن يستضعف يحيى رجلاً فيترك الحديث عنه، ويرى عبد الرحمن أن الرجل وإن كان فيه ضعف فليس بالشديد، فيحدث عنه ويثني عليه بما يوافق حاله عنده، وقد قال تلميذهما ابن المديني: (إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن لأنه أقصدهما (4)، وكان في يحيى تشدد (5))؛ والأئمة الذين جاءوا بعدهما لا يجمدون على قولهما، بل يبحثون وينظرون ويجتهدون ويحكمون بما بان لهم؛ والعارف الخبير الممارس لا يتعذر عليه معرفة الراجح فيما اختلف فيه من قبْله. وعلى فرض أننا لم نعرف من حال راوٍ إلا أن يحيى تركه وأن عبد الرحمن كان يحدث عنه، فمقتضى ذلك أنه صدوق يهم ويخطئ، فلا يسقط ولا يحتج بما ينفرد به).
(74)
تفضيل بعض النقاد أحياناً من يعرفونه حق المعرفة
على من لا يعرفونه كذلك
من كان من الأئمة يقدم محدثاً رآه هو على آخر لم يره فينبغي التثبت في قبول كلامه، قال الذهبي في (السير) (5/ 474): (كان يحيى بن سعيد القطان يقدم يحيى بن سعيد الأنصاري على الزهري لكونه رآه ولم ير الزهري).
وكذلك يجب التثبت في تقديم بعض النقاد لأهل بلدهم على غيرهم؛ فإنه يحتمل أن يكون أحياناً من هذا الباب الذي تقدم معناه؛ روى الخطيب في (الجامع) (2/ 299) عن أحمد بن سعيد الدارمي قال: (سمعت محمود بن غيلان يقول: قيل لوكيع بن الجراح: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؛ وأفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة؛ وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة؛ أيهم أحب إليك؟ قال: لا نعدل بأهل بلدنا أحداً؛ سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أحب إلي.
قال أحمد بن سعيد الدارمي: وأما أنا فأقول: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أحب إلي؛ هكذا رأيت أصحابنا يقدمون).
(75)
اعتماد ابن معين وغيره نقد أبي مسهر للشاميين
قال المزي (16/ 375): (قال فَيّاض بن زُهير، عن يحيىَ بن مَعِين: مَن ثَبّتَ أبو مُسْهِر من الشاميين، فهو مُثَبّتٌ).
وقال ابن حبان في (المجروحين) (2/ 72) في أبي مسهر: (من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين، الذي كان يقبل كلامه في التعديل والجرح في أهل بلده كما كان يقبل ذلك من أحمد ويحيى بالعراق، وكان يحيى بن معين يفخم من أمره----).
وقال ابن حبان فيه أيضاً: (كان إمام أهلِ الشام في الحِفْظ والإتقان، ممّن عُنَي بأنسابِ أهل بلده وأنبائِهم، وإليه كان يرجع أهل الشام في الجَرْح والعدالة لشيوخهم). حكاه المزي في ترجمة أبي مسهر من (تهذيب التهذيب).
وقال المزي أيضاً: قال أبو الحسن المَيْمونيّ: (وذَكَرَ يوماً ـ يعني أحمد بن حنبل ـ أبا مُسْهِر الشاميّ فقال: كيّسٌ، عالمٌ بالشاميين؛ قلت: وبالنسب؟ قال: نعم، زَعَموا).
(76)
مقارنة بين اثنين من أوسع وأنفع كتب التاريخ
وهما تاريخ بغداد للخطيب وتاريخ نيسابور للحاكم
كتاب الحاكم في التاريخ كتاب جليل واسع كثير الفوائد قال السبكي في (طبقات الشافعية) (1/ 173): (كانت نيسابور من أجل البلاد وأعظمها، ولم يكن بعد بغداد مثلها؛ وقد عمل لها الحافظ أبو عبد الله الحاكم تاريخاً تخضع له جهابذة الحفاظ، وهو عندي سيد التواريخ؛ وتاريخ الخطيب وإن كان أيضاً من محاسن الكتب الاسلامية إلا أن صاحبه طال عليه الأمر، وذلك لأن بغداد وإن كانت في الوجود بعد نيسابور إلا أن علماءها أقدم، لأنها كانت دار علم وبيت رئاسة قبل أن ترتفع نيسابور، ثم إن الحاكم قبل الخطيب بدهر والخطيب جاء بعده؛ فلم يأت الا وقد دخل بغداد من لا يحصى عدداً، فاحتاج إلى نوع من الاختصار في تراجمهم. وأما الحاكم فأكثر من يذكره من شيوخه أو شيوخ شيوخه أو ممن
¥