تقارب من دهره، لتقدم الحاكم وتأخر علماء نيسابور؛ فلما قل العدد كثَّر في المقال وأطال في التراجم واستوفاها. والخطيب واضح العذر الذي أبديناه) (15).
أقول: ولكن الخطيب يبقى هو الأعلم بأصول علم الحديث والأوثق في النقل والأدق في العلم والألصق بالصنعة؛ وقد حفظ علينا في كتابه جملة طيبة نافعة من أقوال النقاد في الرواة بأسانيدها وألفاظها؛ وما أظن الحاكم النيسابوري يلحقه في مثل هذه الشؤون؛ والله أعلم.
(77)
اعتدال أهل الحديث في الجملة
يرى كثير من المشتغلين بغير علم الحديث أو ممن اشتغلوا به ولم يسلكوا به طريقة أهله أن علماء الجرح والتعديل أصحاب تشدد وتعنت في النقد، وأنهم طعنوا بسبب ذلك في كثير من المحدثين والفقهاء والمؤرخين والأخباريين واللغويين وغيرهم من المشاهير الذين حقهم التوثيق وهذا ظن باطل، فإن أمر القوم أساسه العدل وقوامه الإنصاف، ومن يعدل في الدنيا إن لم يعدل علماء الحديث ونقاد الأثر؛ ومما يجري مجرى هذه التهمة ما زعمه بعض المتحاملين على أهل الحديث إذ قال في تعليقه على (شروط الأئمة الخمسة) للحازمي (ص33): (وفي كثير من الكتب المؤلفة في ذلك [يعني الجرح والتعديل] غلو وإسراف بالغ).
قلت: ما أبعد هذا الوصف عن تلك الكتب، وإنما الغلو والإسراف البالغ واقع في قوله هذا وفي اقوال له كثيرة مبثوثة في بطون مؤلفاته وفي حواشيه على كتب الناس.
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي ... أنا الثريا وذانِ الشيب والهرمُ
وقال بعض المعاصرين في رد له على هذا المتحامل: (نعم قد يكون عند بعض الحفاظ تشدد في نظرتهم إلى بعض الرواة ولكن هذا ليس ناتجاً عن التعنت وإنما هو نتيجة طبيعية لمنهج كل إمام من النقاد في الجرح والتعديل، فبعض النقاد يتشدد مع المبتدعة لأن من منهجه التضييق عليهم، وبعضهم يتشدد مع سيء الحفظ لأنه يرى الحيطة في الدين أولى. أما دعوى التشدد والتساهل هذه فمردودة من جذورها (6) على ما أوضحته في غير هذا الكتاب مطولاً».
وأقول: أما دعوى رد دعوى التشدد أصلاً ففيها نظر وتوقف ولكنها ليست ببعيدة عن الحق، وإن كان قد ثبت ذلك عن بعض الأئمة مثل أبي نعيم وعفان، وأما رد دعوى التساهل عن الذين عرفوا به واشتهر عنهم فدعوى مردودة غير مقبولة وساقطة غير قائمة فقد ثبت ذلك بوضوح عند العجلي وابن حبان والترمذي والحاكم ثم المنذري والسيوطي وغيرهم.
فإن قيل ما وجه التفريق؟ قلت: لأن كثيراً من النقاد يميلون إلى إحسان الظن وسلامة النقد، وكأن الأصل عندهم في الرواة العدالة والحفظ وفي الأحاديث الصحة والثبوت حتى يقوم الدليل على خلافه.
وعلى كل حال فقد وقع من النقاد تساهل وتشدد ولكن الاعتدال هو الغالب عليهم وما وقع منهم في الجملة من التساهل كان في الحقيقة أكثر مما وقع منهم من التشدد، والمحققون المعتدلون من أهل العلم يعرفون ما وقع من هذا وذاك.
وأما ما وقع في كلام العلماء من وصف يحيى بن سعيد القطان وبعض الأئمة الآخرين بالتشدد في نقد الرواة أو في انتقاء شيوخهم وأنهم تركوا جماعة من الرواة روى عنهم غيرهم من علماء الحديث؛ فهذا كله وما كان في معناه إنما هو في مراد العلماء المحققين تشدد يسير جداً مبني على الاحتياط في أمر الحديث ومتفرع على كمال المعرفة بالرواة وعلل أحاديثهم، وهو إن لم يكن ميزة تَفَوُّقٍ في ذلك الإمام الموصوف بالتشدد فلن يكون بحال مغمزاً فيه أو مطعناً في علمه، ولكن هذا ما لم يفهمه بعض المتأخرين جداً وبعض المعاصرين فراح يدعي قواعد لا قواعد لها ويطلق كلمات عن صراط العدل ما أعدلها ويصف هؤلاء الأئمة الفضلاء بما يتعجب منه العقلاء ويمقت سماعه العلماء، ومن هؤلاء اللكنوي غفر الله له (7) الذي بالغ جداً وأسرف كثيراً حيث قال في (الرفع والتكميل) (ص176):
¥