«فهذا كله يدل على أن ألفاظهم في ذلك تصدر على حسب السؤال، وتختلف بحسب ذلك، وتكون بحسب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض» وإلى أن قال: «وقد يحكم بالجرحة على الرجل بمعنى [أي بأمر] لو وجد في غيره لم يجرح به لما شهر من فضله وعلمه وأن حاله يحتمل مثل ذلك».
وقال في ختام مبحثه هذا: «فعلى هذا يحمل ألفاظ الجرح والتعديل من فهم أقوالهم وأغراضهم، ولا يكون ذلك إلا لمن كان من أهل الصناعة والعلم بهذا الشأن؛ وأما من لم يعلم ذلك وليس عنده من أحوال المحدثين إلا ما يأخذه من ألفاظ أهل الجرح والتعديل، فإنه لا يمكنه تنزيل الألفاظ هذا التنزيل، ولا اعتبارها بشيء مما ذكرنا، وإنما يتبع في ذلك ظاهر ألفاظهم فيما وقع الاتفاق عليه، ويقف عند اختلافهم واختلاف عباراتهم».
وقال الزركشي في (النكت): (فائدة في الجمع بين أقوال الأئمة المنقول عنهم صيغة التمريض والتقوية وقد جمع بينهما القاضي أبو الوليد الباجي فقال في كتابه (فرق الفقهاء): إن الرجل منهم قد يسأل عن الشيخ الذي ليس بذلك في جملة الضعفاء فيقول: لا بأس به، هو صدوق، هو ثقة يعني أنه ليس من هذه الطبقة؛ ويسأل عنه في مجلس آخر في جملة الأئمة فيقول: ذاك ضعيف لين الحديث عنده مناكير ليس بمعروف؛ على حسب حاله.
وقد كان يحيى بن معين يسأل عن رجل روى حديثاً فيضعفه، ويسأل عنه في رواية حديث آخر فيوثقه؛ وإنما ذلك بحسب ما يحتمله حاله من الحديث ويقبل فيه على انفراده وروايته؛ فلا يقبل [لعلها فلا يقدر] على هذا ولا يفهمه إلا من عرف الصناعة وعلم أسرارها ومقاصدها وأغراض الأئمة المجرحين والمعدلين؛ وليس كل أحد من الثقات يحتمل تفرده). انتهى.
وزيادة في الإيضاح أضرب هذا المثال: قد يستعمل الناقد لفظة صدوق بمعنى لفظة ثقة، وإنما يعدل عن ثقة إلى صدوق لأن قرينة في السؤال أو في تصرف السائل أو في المجلس تقتضي منه ذلك العدول لأن كلمة ثقة حينئذ – أي في ذلك المجلس - معناها الثقة الثبت الحجة الحافظ، وهو قد سئل عمن هو ثقة غير مؤكد التوثيق فلا بد له حينئذ من استعمال كلمة صدوق أو ما يقوم مقامها؛ وبهذا يتبين أن جعل هذا المعنى الطارئ لكلمة صدوق معنى لازماً لها عند ذلك الإمام الذي استعملها: لا يصح إلا باستقراء كاف أو نص عليه من ذلك الإمام نفسه أو ممن نظن أنه عنه أخذه – أي تلميذه – أو نص من كبار النقاد القدماء العارفين به معرفة كافية فائقة.
وبعض ما يظهر من اختلاف في كلمات الناقد في رجل واحد إنما هو في الحقيقة اختلاف في اللفظ لا في المعنى، أي أن الناقد قد يستعمل اللفظة التي اشتهرت بمعنى معروف عند الجمهور، بمعنى آخر تحتمله، وهذا مما ينبغي التنبه له والتفطن إليه، وهو يقضي بوجوب دراسة مصطلحات العلماء على وجه الاستقراء والتدقيق والتفصيل.
7 - قد يكون في بعض الأحوال الاختلاف غير واقع من الناقد بل تكون كلماته في الرجل متحدة المعنى متطابقة ولكن أخطأ عليه من روى بعض تلك الكلمات عنه بلا واسطة أو بواسطة [[هامش: الراوي بلا واسطة هو التلميذ، والراوي بواسطة هو من دون التلميذ في الطبقة]]، كأن يكون كلامه في راو معين فيظن السامع أنه أراد راوياً آخر يشاركه في اسمه فينقل كلامه على أنه في ذلك المتوهَّم مع أن ذلك الناقد له في هذا المتوهم حكم مغاير فيحصل بحسب النقل اختلاف في حكمه على راو واحد.
قال المعلمي في (التنكيل) (ص250 - 253): «ليستثبت [يعني من أراد معرفة حال راو من الرواة، فوجد فيه كلمة لأحد النقاد] أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة فإن الأسماء تتشابه وقد يقول المحدث كلمة في راو فيظنها السامع في آخر ويحكيها كذلك، وقد يحكيها السامع فيمن قيلت فيه ويخطئ بعض من بعده فيحملها على راو آخر؛ ففي الرواة المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي والمغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حزام الحزامي والمغيرة بن عبد الرحمن بن عوف الأسدي؛ حكى عباس الدوري عن يحيى بن معين توثيق الأول وتضعيف الثالث، فحكى ابن أبي حاتم عن الدوري عن ابن معين توثيق الثاني ووهمه المزي؛ ووثق أبو داود الثالث وضعف الأول فذكرت له حكاية الدوري عن ابن معين فقال: غلط عباس».
ثم ذكر المعلمي تسعة أمثلة أخرى لهذا النوع من الغلط أو الاختلاف في نقل الجرح كلها من كلام ابن معين ومثالين آخرين من كلام غيره.
¥