وبعدُ، فمن المناسب أن أبين هنا معاني ثلاثة مصطلحات بينها وبين التسوية نوع من العموم والخصوص أو التداخل أو التشابه والتقارب في معانيها، وهي تدليس التسوية والتقصير والتجويد.
أما تدليس التسوية: فهو أن يفعل الراوي مثلما فعل في تدليس الإسناد – وقد تقدم معناه - سوى أنه لا يفعل ذلك لنفسه بل يفعله لشيخه أو بعض من فوقه؛ أي أنه لا يحذف شيخه بل يحذف بعض من فوقه، فكأن هذا الذي فُعل له ذلك هو الذي دلس مع أنه في الحقيقة غير مدلس.
ويصح أيضاً أن يقال في تعريف هذا النوع من التدليس: هو أن يحذف الراوي من السند راوياً يبقى الإسناد بعد حذفه محتملاً للوصف بالاتصال.
وويصح أيضاً أن يقال في تعريفه: هو أن يحذف المدلس راوياً من بين راويين سمع متأخرهما من متقدمهما في الجملة، ولكنه – أي المتأخر - لم يسمع منه تلك الرواية بعينها، ويذكر - أي المدلس - بينهما صيغة موهمة للسماع، يفعل ذلك متعمداً.
وأما التقصير: فبيانه أنه كان جماعة من القدماء - ومنهم أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان - يستعملون لفظة (قصّر) للتعبير عن إسقاط الراوي بعض من فوق شيخه في السند بحيث يصير السند بعد ذلك منقطعاً؛ وقد يكون ذلك الاسقاط عمداً مع ضبط فاعله لما سمعه، أو يفعله من أجل شكه فيه وعدم ضبطه له، أو يفعله خطأ؛ وقد يكون الساقط واحداً أو أكثر، ومعلوم أن هذا ليس من التدليس في شيء.
فلفظة التقصير إذن مستعملة بالمعنى الثاني المذكور للفظة التسوية.
ومنهم أيضاً من كان يستعمل لفظة (قصَّرَ) للتعبير عن وقف الراوي الحديث الذي رفعه غيره أو رفعه هو في وقت آخر.
وأما التجويد: فيطلق على ذكر الرواية سالمة من العلة الظاهرة خلافاً للروايات الأخرى، ولكن المجود قد يكون متهماً وتعمد التجويد، وقد يكون ضعيفاً وقد يكون ثقة واهماً في تلك الرواية، أي واهماً في جعلها سالمةً من العلة الظاهرة؛ وقد يكون ثقة وروايته هذه محفوظة أي أنه لم يَهِمْ فيها.
ومعنى ذلك أن الرواية المجودة قد تكون منكرة، وقد تكون شاذة، وقد تكون محفوظة.
فالتسوية لا تكون إلا بنقص في السند، لكن التجويد أحياناً يكون بنقص في السند وأحياناً بزيادة فيه، وأحياناً بلا نقص ولا زيادة، وإنما يكون بروايته من طريق سالمة من الضعفاء بخلاف الطرق الأخرى لذلك الحديث.
تصحيف:
التصحيف هو التحريف، وهو تبديل الكلمة، من قِبل من يتلفظ بها أو يسمعها أو يكتبها أو يقرأها، إلى كلمة أخرى تشبهها في صورتها أو في لفظها.
والظاهر أنه لم يكن ثم فرق بين التصحيف والتحريف لا في اصطلاح المحدثين ولا في اصطلاح غيرهم، فإن عباراتهم يفهم منها أن الكل يسمى بالإسمين، وأن التصحيف مأخوذ من النقل عن الصحف، وهو نفسه تحريف؛ وبقي – على ما يظهر – ذلك كذلك إلى أن جاء الحافظ ابن حجر ففرق بينهما فتبعه على ذلك جماعة ممن جاء بعده.
وقد قسم ابن حجر التصحيف أو التحريف وهو – كما تقدم - التغيير الواقع على الكلمات، سواء كان في صورتها المكتوبة أي المرئية، أو في صورتها الملفوظة أي المسموعة، إلى قسمين، فجعل ما كان فيه تغيير حرف أو حروف بتغيير النقط مع بقاء صورة الخط تصحيفاً، وما كان فيه ذلك في الشكل تحريفاً، وهو اصطلاح جديد.
ثم إن التصحيف قد يكون في الإسناد مثل أن يتصحف اسم شعبة إلى سعيد أو تتصحف (ثنا) إلى (بن)، وقد يكون في المتن، وأمثلة ذلك كثيرة جداً.
وذلك كله قد يكون من القراءة في الصحف، أو من السماع لاشتباه الكلمتين على السامع، أو من تبدل كلمة في حفظ الراوي إلى كلمة أخرى تشبهها، وذلك بسبب سوء الحفظ من الضعيف أو بسبب الوهم من الثقة.
فهذه أقسام ثلاثة: تصحيف البصر وتصحيف السمع وتصحيف الحفظ.
وأما ما يكون من المعنى، أي بإبدال الراوي اللفظة أو العبارة بما يظن أنه يرادفها وهو في الحقيقة يخالفها في المعنى فليس من التصحيف على الحقيقة، بل هو من باب الخطأ في الفهم.
فائدة: كل قسم من القسمين الأول والثاني له ثلاثة أسباب:
فتصحيف القراءة سببه خلل ورداءة في كتابة الكاتب أو في قراءة القارئ أو أسباب خارجية مانعة من حسن القراءة كبعد الكتاب عن عيني القارئ أو شيء من الظلمة ونحو ذلك.
¥