وربما زدت ألفاظاً يسيرة في أثناء كلامه لمصلحة في ذلك. وأحذف كثيراً من الخلاف في وفاة الرجل، إلا لمصلحة تقتضي عدم الاختصار. ولا أحذف من رجال التهذيب أحداً، بل ربما زدت فيهم من هو على شرطه؛ فما كان من ترجمة زائدة مستقلة، فإنني أكتب اسم صاحبها واسم أبيه بأحمر. وما زدته في أثناء التراجم قلت في أوله?قلت)، فجميع ما بعد (قلت) فهو من زياداتي إلى آخر الترجمة).
وختم ابن حجر خطبة الكتاب بقوله: (فلو لم يكن في هذا المختصر إلا الجمع بين هذين الكتابين الكبيرين في حجم لطيف لكان معنى مقصوداً، هذا مع الزيادات التي لم تقع لهما، والعلم مواهب. والله الموفق). انتهى كلامه.
وكتاب (التهذيب) من كتب ابن حجر التي حررها، قال السخاوي: (سمعت ابن حجر يقول: لست راضياً عن شيء من تصانيفي، لأني عملتها في ابتداء الأمر، ثم لم يتهيأ لي من تحريرها سوى شرح البخاري ومقدمته والمشتبه والتهذيب ولسان الميزان، بل كان يقول فيه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أتقيد بالذهبي ولجعلته كتاباً مبتكراً، بل رأيته في مواضع أثنى على شرح البخاري والتغليق والنخبة).
الباب الثاني
محاسن النقد عند ابن حجر
يتحلى ابن حجر في نقده الأحاديث ورجالها بطائفة كثيرة من الخصال الحسان التي أهلته للإمامة في فن النقد الحديثي من عصره إلى هذا اليوم؛ وفيما يلي محاولة مني لذكر أهم تلك الخصال.
الخصلة الأولى:
تمكن ابن حجر من علم المصطلح، وهذه الخصلة غنية عن البرهان، فقد علم من ترجمته أنه طالع ما كان متداولاً في زمنه من كتب هذا الفن، وأنه درسه دراسة مستفيضة على شيخه العراقي وغيره، وأنه ألف فيه كتابين شهيرين أولهما النكت على ابن الصلاح والعراقي والثاني شرح نخبة الفكر والنخبة من تأليفه أيضاً؛ وأنه استدرك على ابن الصلاح والعرقي وغيرهما استدراكات مهمة.
الخصلة الثانية:
سعة حفظ ابن حجر، وهذه – كالتي قبلها - أشهر من أن يبرهن عليها أو من أن نحرص على أن نسوق لإثباتها شهادات العلماء له بها.
ولا شك أن الحفظ الواسع المتين يعين صاحبه عند ما يريد تخريج الحديث ونقده على استحضار طرقه وأقوال العلماء فيه وفيها، أو على استحضار كثير من ذلك أو على استحضار مظانه من كتب العلماء.
وكذلك شأن الحافظ المتقن عند إرادته نقد راو من الرواة، فإن حفظه ييسر عليه استحضار مرويات ذلك الراوي وطرق تلك المرويات من شواهد ومتابعات وما بينها من اتفاق واختلاف، واستحضار ما قاله العلماء في ذلك الراوي وفي الأحاديث التي رواها وفي رجال تلك الأحاديث؛ أو استحضار كثير من ذلك مع استحضار مظان وروده من كتب العلماء.
ولعل هذا الأمر الأخير هو الأقرب، فلا شك أن الحفظ – ولا سيما عند المتأخرين - لا يسع كل هذه الأبواب ولا يفي باستقراء كل تلك المطالب ولكنه يسهل على العالم الخوض في فنه واستقراء مباحثه ويكون مفتاحاً للرجوع السريع الى الكتب واتمام البحث فيها، ويكون مانعاً من الوقوع في ما لا يليق بالعلماء من قبيح الزلات وفاحش الأخطاء.
ولعل من ادعى أن ابن حجر أمير حفاظ الحديث من وقته إلى وقتنا كان مدعياً أمراً واضحاً لا ينبغي أن يطالب عليه ببرهان ولا يخالفه فيه منصف عارف بتاريخ المتأخرين من علماء هذا الشان.
الخصلة الثالثة:
سعة اطلاع ابن حجر على كتب الرواية والنقد وتراجم العلماء والرواة، وأنه توفر لديه من الكتب في ذلك ما لعله لم يتوفر لأحد من معاصريه إلا ما ندر.
وقد أعان ابن حجر على ذلك أمور منها أنه كان قد ظهر نبوغه واجتهاده في علوم الحديث واشتهر بذلك، فلهذا أعانه في طلبه وبحثه وتصنيفه كثير من مشايخه وكبار أقرانه وغيرهم؛ حتى أن بعضهم أوصى له بكتبه من بعده، وعني به بعض مشايخه كالحافظ العراقي عناية تامة واضحة.
وأعانه على ذلك أيضاً أنه كان أحد أغنياء العصر، وكان أحد كبار قضاة الدولة ونال من الشهرة بالعلم في عصره أمراً عجيباً، فكل ذلك سهل عليه شراء الكتب أو استعارتها أو عمل نسخ منها.
¥