وأعانه على ذلك أيضاً أنه أسند إليه مهمة خزن الكتب بالمدرسة المحمودية، وكانت حينئذ تضم أنفس الكتب الموجودة في القاهرة والتي كان قَيْد جمعها البرهان ابن جماعة (ت 790) طول عمره؛ وكان ابن حجر قد عمل لها فهرستاً على الحروف في أسماء التصانيف، وآخر على الفنون وكان يقيم بها – على الأغلب – يوماً واحداً من كل أسبوع؛ وكان يكتب في مدة الأسبوع قائمة بما يحتاجه من المراجعة ليتذكره في يوم حلوله بها.
[(((هامش))): انظر (إنباء الغمر) لابن حجر (1/ 355 - 356)، و (الجواهر والدرر) للسخاوي، و (التاريخ والمنهج التاريخي عند ابن حجر العسقلاني) للكتور محمد كمال عز الدين (ص171 - 172)].
قال المعلمي في (التنكيل) (ص480): (وابن حجر واسع الاطلاع، وقد استدرك على الذهبي عدة أوهام).
[(((هامش))): فائدة: ذكر المعلمي بعد هذا الكلام أمراً ظنه من أسباب أوهام الذهبي في كتبه فقال: (ويظهر أن الذهبي كان إذا ظفر باسم في مطالعاته قيده في مذكرته ليلحقه في موضعه من الميزان، فقد يقع التصحيف والوهم، إما من المأخذ الذي نقل عنه الذهبي، وإما من سرعة كتابة الذهبي في مذكرته). قلت: ويظهر أن طريقة ابن حجر في التأليف والتدوين سالمة من مثل ذلك. انتهى الهامش]
الخصلة الرابعة:
كثرة اشتغال ابن حجر في علوم الحديث، حتى أنه كاد فيها يتخصص ولها يتفرغ، وقد علم ذلك من سيرته وما ترجمه به تلامذته ومعاصروه، ودل عليه أكمل دلالة كثرة مؤلفاته في هذا العلم، فإن من وقف على أسمائها وصفاتها انبهر من كثرتها مع تنوع أبوابها، وتملكه العجب من علو همته ووفور نشاطه؛ رحمه الله.
لقد كان ابن حجر من النقاد المكثرين جداً، وحسبك دليلاً على هذا أنه قد تكلم في مجموع كتبه على جل الأحاديث وجل رواتها.
الخصلة الخامسة:
حسنُ مشاركة أو اطلاع ابن حجر على العلوم الأخرى؛ وكثير منها – كما هو بين لا يخفى – تكون ممارسته سبباً في تهذيب طريقة الناقد في النقد وزيادة تمكنه منه، ومن تلك العلوم شرح الحديث، وأصول الفقه، واللغة والتفسير وفقه السلف والسيرة والتاريخ.
[(((هامش))): علم التاريخ شديد الصلة بعلم الجرح والتعديل وثيق الارتباط به، وقد ألف فيه ابن حجر كتباً كثيرة منها (الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة) و (انباء الغمر بانباء العمر)، ولقد ذكر الشوكاني موازنة بين الدرر الكامنة وكتاب السخاوي (الضوء اللامع) لا أرى بأساً من ذكرها هنا؛ قال الشوكاني في ترجمة السخاوي من البدر الطالع: (ولو لم يكن لصاحب الترجمة من التصانيف إلا الضوء اللامع لكان أعظم دليل على إمامته، فإنه ترجم فيه أهل الديار الإسلامية وسرد في ترجمة كل أحد محفوظاته ومقروءاته وشيوخه ومصنفاته وأحواله ومولده ووفاته على نمط حسن وأسلوب لطيف ينبهر له من لديه معرفة بهذا الشأن ويتعجب من إحاطته بذلك وسعة دائرته في الإطلاع على أحوال الناس، فانه قد لا يعرف الرجل – لا سيما في ديارنا اليمنية – جميع مسموعات ابنه أو ابيه أو أخيه فضلاً عن غير ذلك.
ومن قرن هذا الكتاب الذي جعله صاحب الترجمة لأهل القرن التاسع بالدرر الكامنة لشيخه ابن حجر في أهل المئة الثامنة عرف فضل مصنف صاحب الترجمة على مصنف شيخه، بل وجد بينهما من التفاوت ما بين الثرى والثريا.
ولعل العذر لابن حجر في تقصيره عن تلميذه في هذا أنه لم يعش في المئة الثامنة إلا سبع وعشرين سنة، بخلاف صاحب الترجمة فانه عاش في المئة التاسعة تسع وستين سنة فهو مشاهد لغالب أهلها، وابن حجر لم يشاهد غالب أهل القرن الثامن، ثم إن صاحب الترجمة لم يتقيد في كتابه بمن مات في القرن التاسع، بل ترجم لجميع من وجد فيه ممن عاش إلى القرن العاشر، وابن حجر لم يترجم في الدرر إلا لمن مات في القرن الثامن). انتهى كلام الشوكاني.
قلت: لعل ابن حجر قصد الاختصار والاقتصاد؛ وأما السخاوي فظاهر جداً انه كان قاصداً إلى الاستيفاء والاستيعاب، وإن صح هذا الذي قلته في حق ابن حجر كان أقوى أعذاره في هذه المسألة التي ذكرها الشوكاني والله أعلم. انتهى الهامش].
الخصلة السادسة:
التثبت في النقل والنقد.
¥