يتصف ابن حجر بقدر طيب من التثبت والتروي فيما ينقله ويحكم به على المسائل والأحاديث والرجال، فهو معروف بالتثبت فيما يحكيه من أقوال العلماء في النقد، وبأنه لا يجزم فيما ينقله من ذلك وغيره إلا بما صح عنده، وهذا معروف لمن طالع كتبه ولاحظ صنيعه في المنقولات.
وقال المعلمي اليماني في (التنكيل) (ص593) عقب نقله عن ابن حجر شيئاً حكاه في اللسان عن الحاكم بصيغة جزم: (كذا جزم مع أن من عادته أنه لا يجزم بما لا يصح)؛ وانظر التنكيل (ص284).
وقال في (التنكيل) أيضاً (ص277) في أول قسم التراجم منه: (فأذكر في كل ترجمة كلام الأستاذ وما له وما عليه، متحرياً إن شاء الله تعالى الحق، فما لم أنسبه من أقوال أئمة الجرح والتعديل إلى كتاب فهو من (تهذيب التهذيب) أو (لسان الميزان)، وعادة مؤلفها أن لا يجزم بالنقل فيما لم يثبت عنده، فإن تبين لي خلاف ذلك نبهت عليه).
وسبق أن نقلت قوله في مقدمة (التهذيب): (وقد انتفعت في هذا الكتاب المختصر بالكتاب الذي جمعه الإمام العلامة علاء الدين مغلطاي على تهذيب الكمال، مع عدم تقليدي له في شيء مما ينقله، وإنما استعنت به في العاجل، وكشفت الأصول التي عزا النقل إليها في الآجل، فما وافق أثبتُّه، وما باين أهملته).
[(((هامش))): ولكن تعقبه صاحبا (تحرير التقريب) فقالا في هذا الكلام: «فيه نظر، لوقوعه أحياناً في أوهام توهمها مغلطاي في النقل وتابعه هو عليها، مما يدل على عدم التزامه التام بهذا الذي ألزم نفسه إياه، كما بيناه في تعليقاتنا على تهذيب الكمال. انتهى الهامش].
وعلى كل حال فكلام ابن حجر هذا دال على تثبت ابن حجر ولو في الجملة؛ فمعلوم أنه لا عيب ولا لوم على العالم أن ينقل عن غيره من العلماء الثقات، وأن يعتمد على نقلهم، ولكن مغلطاي رحمه الله له أوهام غير قليلة، بل قد تكلم فيه غير واحد من خصومه كلاماً لعله يخدش منزلته في هذا العلم؛ ولهذا اعتذر ابن حجر بما تقدم.
[(((هامش))): قال مؤلفا (تحرير التقريب) (ا/209) في مغلطاي: (وهو غير دقيق في بعض نقوله)؛ ووصفه محقق (تهذيب الكمال) (4/ 319) بقوله: (وهو المولع بالاعتراض حينما يجد أي مسوغ لذلك أو رواية مخالفة وإن كانت شاذة). وقال في مقدمة تحقيقه: (ومهما يكن من أمر فإن ما كتبه مغلطاي من نقد وفّر مادة تأريخية لجميع الذين جاءوا بعده ممن عني باختصار (التهذيب) أو الإستدراك عليه --- نعم، كانت لمغلطاي أوهام، فهو من المكثرين، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم). انتهى الهامش].
وابن حجر كما كان متثبتاً في روايته أقوال غيره كان متثبتاً في أحكامه لا يهجم على الحكم ولا يتسرع في إصداره وهو متثبت في اختياره ما يختاره أو يرجحه من أقوال النقاد حسن النظر في مواضع الخلاف.
وهو القائل في كتابه (نزهة النظر) (ص113): (ليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل، فإنه إن عدّل بغير تثبت كان كالمثبت حكماً ليس بثابت فيخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب؛ وإن جرّح بغير تحرز أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبداً).
وقال ابن حجر في (اللسان) (4/ 270) بعد أن ذكر وهماً من أوهام الذهبي: «فينبغي التثبت في الذين يضعفهم المؤلف [يعني الذهبي في الميزان] من قبله».
الخصلة السابعة:
الدقة والبراعة في نقل عبارات العلماء، وعدم التصرف الكثير فيها من غير حاجة وبيان، وأما إذا اختصر العبارة التي ينقلها أو تصرف فيها فهو متحفظ محتاط؛ ومع ذلك لم يسلم في بعض المواضع من إخلال في اختصار العبارة أو تقصير في التعبير عن معناها.
[(((هامش))) تقدم قوله في خطبة (تهذيب التهذيب): (وربما أوردت بعض كلام الأصل بالمعنى مع استيفاء المقاصد، وربما زدت ألفاظاً يسيرة في أثناء كلامه لمصلحة في ذلك).
تنبيه: حكاية كلام علماء الرجال والعلل بلفظه أمر يوصي به المحققون ويحافظ عليه المتقنون لأن الإخلال به لا يخلو من أن يؤدي إلى خلل في معنى العبارة في كثير من المواضع، ولا سيما أن المصطلحات تتقارب وتتباعد، والعبارات تتشابه وتشتبه].
الخصلة الثامنة:
كثرة انتفاعه من جهود من سبقوه، وما أكثرهم.
ويحسن هنا نقل ما صرح به محمد عوامة وتعقبه عليه صاحبا (تحرير التقريب).
¥