قال مؤلفا (تحرير التقريب) (1/ 31): «وقد اضطرب الحافظ ابن حجر اضطراباً شديداً في التقريب في موقفه من توثيق ابن حبان، أو ذكره لشخص ما في كتابه (الثقات)، فهو تارة يعتد به، ولا يعتد به تارة أخرى. فقد حكم بجهالة عدد ممن تفرد بالرواية عنهم واحد ووثقهم ابن حبان، وحكم بجهالة حال من روى عنه اثنان ووثقه ابن حبان، في حين أطلق على مثل هذا في مواضع أخرى لفظ (مستور). وتوسع في إطلاق لفظ (مقبول) على من روى عنه واحد ووثقه ابن حبان، لكنه أطلق اللفظة عينها على من روى عنه اثنان ووثقه ابن حبان ومن روى عنه ثلاثة ووثقه ابن حبان، ومن روى عنه أربعة أو خمسة أو ستة أو حتى أربعة عشر راوياً وروى عنه أبو داود، وهو لا يروي إلا عن ثقة. وفي الوقت نفسه أطلق لفظ (ثقة) على من روى عنه واحد فقط ووثقه ابن حبان، أو روى عنه اثنان ووثقه ابن حبان، أو أكثر من ذلك ووثقه ابن حبان وحده.
ويشعر القارئ مع كل هذا في بعض الأحيان أن ابن حجر لا يقيم وزناً البتة لتوثيق ابن حبان، فقد قال في ترجمة عامر بن مصعب من التقريب: (شيخ لابن جريج لا يعرف … وقد وثقه ابن حبان على عادته). وعامر هذا أخرج له البخاري في (الصحيح) مقروناً، فلماذا لم يتبع هذه القاعدة في كتابه؟
وتدبر بعد ذلك إهماله لتوثيق ابن حبان في عدد من التراجم، حينما صرح بتوثيق واحد من الأئمة حسب، فقال في ترجمة عامر بن عبدة العجلي: (وثقه ابن معين)، ولم يقل (ثقة) مع أن العجلي وابن حبان قد وثقاه أيضاً. وقال في ترجمة عبد الله بن السائب الكندي: (وثقه النسائي) مع أن ابن حبان وابن سعد قد وثقاه في أصل (تهذيب الكمال). وقال في ترجمة عبد الله بن أبي نهيك?وثقه النسائي)، ولم يطلق توثيقه، مع كون العجلي وابن حبان قد وثقاه، وقوله في ترجمة عبد الرحمن بن سعد القرشي العدوي: (وثقه النسائي) مع علمه أن ابن حبان وثقه أيضاً.
وهذا الموقف المضطرب من توثيق ابن حبان والعجلي وابن سعد وأضرابهم، والذي يمكن تقديم عشرات الأمثلة عليه، لا يمكن إحالته على سبب من الأسباب سوى الإبتعاد عن المنهج وخلو الكتاب منه، ومثله مثل مئات التراجم التي لم يحررها تحريراً جيداً، بحيث ضعف ثقات، ووثق ضعفاء، وقبل مجاهيل، واستعمل عبارات غير دقيقة في المختلف فيهم، مما سيجده القارئ الباحث في مئات الإنتقادات والتعقبات التي أثبتناها في (تحرير أحكام التقريب)» انتهى كلامهما.
وقال محقق (ثقات العجلي) الاستاذ عبد العليم البستوي (1/ 128 - 131): «وقد تعددت مواقف الحافظ ابن حجر في التقريب ازاء توثيق العجلي لمثل هؤلاء [يعني مجاهيل الحال ومن لم يرو عنهم إلا واحد] فهو تارة يحكم عليهم بالثقة، وقد يقول (صدوق) وقد يكتفي بقوله (وثقه العجلي) وقد يقول: (مقبول)، وتارة يحكم بأنه (مجهول)، ولعل لديه اعتبارات أخرى يلاحظها عندما يصدر هذه الأحكام». انتهى كلامه
أقول: لا شك أن أكثر ذلك الاختلاف الذي أشار إليه مؤلفا (تحرير التقريب) ومحقق (ثقات العجلي) إنما هو في الحقيقة اختلاف منه ناشئ عن مراعاته لقرائن كثيرة منها طبقة الراوي ومعرفة الناقد به وأقوال بقية الأئمة فيه والنظر في أحاديثه، ومن أخرج تلك الأحاديث، وكيفية ذلك الإخراج، وعلى أي وجه كان.
وفي الجملة فان منزلة ابن حجر في هذا العلم تؤهله لأن يلاحظ من القرائن بعض ما هو خاف على من ليس مثله، وتيسر عليه أن يراعي من الاعتبارات بعض ما لا يقدر على مراعاته من هو دونه، فيختلف بسبب تلك القرائن وهذه الاعتبارات مقدار ميله إلى قول ابن حبان وأمثاله؛ وهو مع ذلك قد يخطئ في الحكم أو يتسرع فيه أو يتسهل أو يتشدد.
إن هذه ليست دعوة إلى تقليد ابن حجر، أو إلى تقديم مطلق لأقواله على أقوال من يخالفه ممن جاء بعده؛ ولكنها دعوة إلى وجوب التثبت والتأني قبل مخالفته، وإلى وجوب معرفة حق أمثاله ومنزلتهم بين المتأخرين من العلماء، وإن كان ابن حجر وسائر الذين عاشوا بعد القرن الرابع الهجري دون الأئمة المتقدمين بكثير، فإن المتقدمين من جهابذة الحديث وصيارفته وعلماء علله هم المرجع الأول في هذا الفن وهم الذين إذا تكلموا سكت كل متأخر.
المأخذ الثالث
عدم بيانه الدقيق لمعاني مصطلحاته النقدية وأحكامها بدقة
¥