من المعروف أن ألفاظ وعبارات التجريح والتعديل لها معان دالة على حكم روايات أصحابها وأن ذلك هو المقصود من تلك الألفاظ والعبارات؛ ومن المعروف أيضاً أن بعض تلك الألفاظ والعبارات لها معان مفسرة محددة دالة على مرتبة للحديث محددة أيضاً مثال ذلك قولهم في الراوي: (هو عدل ضابط متقن) وقولهم فيه: (هو وضاع)، وقولهم فيه: (جميع أحاديثه محفوظة لم يخطئ في شيء منها) وغير ذلك؛ وأن منها ألفاظاً وعبارات تحتمل أكثر من معنى وإن كانت تلك المعاني في الغالب متقاربة؛ ومن أسباب تلك الاحتمالات أن تلك الكلمة لم تكن متداولة بين المتقدمين ولا شائعة على ألسنتهم فلم يشتهر لها معنى بعينه، أو أنهم استعملوها في أكثر من معنى.
ومما يؤخذ على ابن حجر في كتابه (تقريب التهذيب) أنه لم يبين معاني مصطلحاته ـ أي أحكام أحاديث أصحابها ـ بياناً كافياً شافياً، ولذا اختلف العلماء والباحثون من بعده في ذلك؛ نعم قسم ابن حجر الرواة في (تقريب التهذيب) إلى اثنتي عشرة مرتبة ولكنه لم يذكر حكم أحاديث كل مرتبة منها (3)؛ ولو بين ذلك وصرح به لكان ذلك شيئاً حسناً جداً ولأغناه عن التصريح بمراده بكل لفظة من ألفاظ النقد التي استعملها في كتابه (4) إذا علمت مرتبتها مثل أن تكون من المرتبة الأولى أو الثانية أو الثالثة، وهلم جراً.
وقد شكا من عدم تعيين ابن حجر لمعاني ألفاظه النقدية التي استعملها في الكتاب تعييناً دقيقاً واضحاً مؤلفا (تحرير التقريب)، فذكرا كلاماً طويلاً في نقد ابن حجر في هذا الباب؛ سأذكره هنا مع بيان بعض ما فيه في هامش الكتاب.
قالا في مقدمة (تحرير التقريب) (1/ 17):
«أما المختلف فيهم فقد استعمل لهم تعابير غير محددة (5)، فقال فيهم (صدوق يهم) أو (صدوق يخطئ) أو ما يشبه ذلك من غير دراسة عميقة لأحوالهم (6)، فكأنه يطالب القارئ بدراسة كل حديث من حديث هؤلاء على حدة ليتبين للدارس إن كان وهم فيه أو لا (7)؛ وهو كما يظهر عمل غير دقيق في الأغلب الأعم؛ إذ ماذا يحكم على حديثه استناداً إلى هذه التعابير غير الدقيقة؟! لأن الصدوق الذي يهم أو الذي يخطئ أو الذي عنده مناكير (8) وإنما (9) هو في حقيقة الأمر حسن الحديث في مواضع ضعيف الحديث في مواضع أخرى (10)، فيعتبر حديثه، فإن وجد له متابع تحسن حديثه، وإذا انفرد ضعف حديثه (11)، فهو حينئذ معلق الأمر لا يمكن الحكم على حديثه بمعيار واحد، إنما يدرس حديثه، وعلى أساس دراسة كل حديث يتم إصدار الحكم عليه.
فضلاً عن أنه قد اضطرب في هذا الأمر [يريدان ألفاظ المرتبة الخامسة] اضطراباً شديداً، فأطلق مثل هذه الألفاظ على ثقات لهم أوهام يسيرة، وأطلقها حيناً على ضعفاء لهم أوهام كثيرة».
وقالا في مقدمة (تحرير التقريب) أيضاً (1/ 43 - 44) عقب شئ ذكراه:
«وهذا يدل من غير شك أن أهل العلم لم يتفقوا على تعابير بعينها في تلك الأعصر، مما يتعين [أي بسببه] دراسة ألفاظ كل عالم منهم على حدة وتحديد مراده من ألفاظه، وكثير من هذه الألفاظ هي ألفاظ وصفية لا اصطلاحية (12).
أما الحافظ ابن حجر، فقد حاول في مقدمة (التقريب) أن يجعلهم اثني عشر صنفاً بما فيهم الصحابة، فإذا استثنيناهم بقي عندنا أحد عشر صنفاً، ولم يبين غايته الواضحة من هذا التصنيف، وماذا تعد مرتبة حديث كل واحد منهم، فضلاً عن اضطرابه اضطراباً شديداً في هذه الألفاظ، وعدم التزامه الدقة (13)، فتارة يطلق لفظة (صدوق) على من هو ثقة (14)، وتارة يطلقها على من هو حسن الحديث، وتارة يطلقها على من هو دون ذلك. أما قوله (صدوق يهم) أو (صدوق يخطئ) ونحوها، فهي عبارات غالباً ما يطلقها على المختلف فيهم من غير دراسة وتدبر لأقوال أئمة الجرح والتعديل، أو دراسة لحديث الراوي». انتهى
وأخيراً أقول: مما يخفف اللوم على الحافظ ابن حجر في هذه القضية أننا لا نعلم أحداً سبقه إلى بيان اصطلاحاته في النقد بدقة كاملة شاملة وتحديدها بوضوح تام مع بيان أحكام أحاديث أصحاب تلك المراتب عنده، لنطالبه هو بذلك، ثم إن كثيراً من مراتب كتابه بينة في أنفسها واضحة معانيها معلومة أحكام أحاديثها، نعم هو لم يبين حكم كل مرتبة من مراتب كتابه ولا ذكر ما يقوم مقام ذلك البيان من بيان الشروط ونحوها، وكان عليه أن يفعل.
¥