قلت: هذا الكلام المتقدم دال على تساهل كبير لا يليق بالإمام النسائي؛ وهو الذي قال في حقه الذهبي في (السير) (14/ 133): (ولم يكن أحد في رأس الثلاث مئة احفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم ومن أبي داود ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري وأبي زرعة----). قلت: فهل يليق بمثل هذا الإمام ذلك الوصف الذي يعطيه ظاهر عبارة الباوردي؟!
نعم قد وُصف النسائي بالعبارات الأخرى المتقدمة التي حاصلها أن في بعض أحكامه على الرواة أو احتجاجه بهم شيئاً من التساهل.
وإذا كان النسائي قد وصف بالتساهل ولكنه لم يشتهر به، فإنه قد وصف بالتشدد واشتهر به؛ قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (9/ 228) في عبد الله بن وهب: (عبد الله حجة مطلقاً، وحديثه كثير في الصحاح وفي دواوين الإسلام، (((وحسبك بالنسائي وتعنته في النقد)))، حيث يقول: وابن وهب ثقة ما أعلمه روى عن الثقات حديثاً منكراً).
وقال في ترجمة الحارث الأعور من الميزان: (حديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي (((مع تعنته في الرجال))) فقد احتج به وقوى أمره (2)، والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب).
وقال في (المغني) (2/ 538) في مالك بن دينار: (النسائي قد وثقه، وهو لا يوثق أحداً إلا بعد الحهد).
وقال المعلمي في (التنكيل) (ص697) في محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: (ومحمد هذا وثقه النسائي، والنسائي ممن قد يفوق الشيخين في التشدد، كما نبهوا عليه في ترجمته).
وبعد؛ فلعل هذا الذي تقدم نقله بشأن النسائي هو أهم ما قيل في حقه من جهة الاعتدال ونقصه؛ ولكن ما هو ببيت القصيد، وإنما هو مجرد تمهيد، فإن الذي يهمنا هنا هو موقف ابن حجر من وصف الإمام النسائي بالتساهل أو بشيء منه؛ أو بالتشدد أو بشيء منه؛ وماذا قال – أي ابن حجر – في ذلك الشأن؛ عسى أن ينفعنا ذلك في معرفة بعض جوانب موقف ابن حجر من أقوال النسائي في الرواة خاصة، ومن أقوال بقية النقاد عامة؛ فإليك ما قاله ابن حجر بصدد هذه القضية:
قال ابن حجر في (مقدمة الفتح) (ص387) في أحمد بن عيسى التستري: (قد احتج به النسائي مع تعنته).
وقال في (النكت على ابن الصلاح) (1/ 482):
(وما حكاه ابن الصلاح عن الباوردي أن النسائي يخرج أحاديث من لم يجمع على تركه، فإنما أراد بذلك إجماعاً خاصاً، وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط، فمن الأولى شعبة وسفيان الثوري، وشعبة أشد منه؛ ومن الثانية يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى أشد من عبد الرحمن؛ ومن الثالثة يحيى بن معين واحمد، ويحيى أشد من أحمد؛ ومن الرابعة أبو حاتم والبخاري، وأبو حاتم أشد من البخاري، وقال النسائي: (لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه)؛ فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان مثلاً، فإنه لا يترك لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد) (3).
ثم قال، أي ابن حجر: (وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك، فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه، كالرجال الذين ذكرنا قَبْلُ (4) أن أبا داود يخرج أحاديثهم وأمثال من ذكرنا، بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين-----).
وهكذا وُصف النسائي بالتشدد أو ما قد يدل عليه أو يوهمه - كما تقدم؛ من قِبَل العلماء المذكورين ومن تبعهم من العلماء والطلبة والدارسين، ولكن رغم اشتهار النسائي بالتشدد وكثرة من وصفه به لم أر لمن ادعى أن النسائي متشدد في نقد الرواة كبير مستند؛ ومن الغريب أن بعض من زعم أن النسائي متشدد في الكلام على الرواة استند إلى مثل قول أبي طالب أحمد بن نضر: من يصبر على ما يصبر عليه النسائي؟ عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة، يعني عن قتيبة عنه، فما صنفها، وقول ابن طاهر: سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه، فقلت: قد ضعفه النسائي، فقال: يا بني إن لأبي عبد الرحمن شرطاً في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم، وقول من قال: إن النسائي ترك إخراج أحاديث جماعة أخرج لهم بعض بقية الستة، وكل ذلك مما لا دلالة فيه على المدعى، وقول الزنجاني خطأ قطعاً وابن لهيعة لا يصح الاحتجاج به، والمسألة الأخيرة قد تقدم الكلام عليها، وهي – كما ذكرت - لا تدل على عدم التساهل فكيف تدل على التشدد؟!
¥