تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

عدم إهدارهم شيئاً من كلام النقاد؛ مع أن جملة منها تستحق الإهدار؛ إما إطلاقاً وإما تقييداً بالمخالفة وظهور عدم خبرة الناقد بالراوي المنتقَد؛ فيتكلفون عند الحكم على الراوي الجمع بين أقوال الأئمة المطلعين الحاذقين وأقوال المتكلفين المتعالمين أو المتسرعين الواهمين؛ وهذا يوجب الخلل في الحكم المستخلص.

وأما الطائفة الأولى فكان لها في هذا المقام شأن آخر؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/ 1/38): (قصدنا بحكايتنا الجرح والتعديل الى العارفين به العالمين له متأخراً بعد متقدم، إلى أن انتهت بنا الحكاية إلى أبي وأبي زرعة رحمهما الله، ولم نحكِ عن قوم قد تكلموا في ذلك لقلة معرفتهم به).

وقال المعلمي في مقدمته لكتاب (الجرح والتعديل): (وقد كان من أكابر المحدثين وأجلتهم من يتكلم في الرواة فلا يعول عليه ولا يلتفت اليه).

المثال الخامس:

تصحيح الحديث بتلقي الأمة له بالإجماع (كما يدعون)، مع أن الأمة - أو أكثرها - إنما تلقت معناه، أعني معنىً يشبه معناه، ودليل ذلك المعنى أمر علمه من علمه وجهله من جهله؛ وأما القول بأنها تلقت الحديث نفسه فمحض دعوى؛ ولو تلقته الأمة بالقبول في عصورها الأولى؛ أما كان في ثقاتها من يرويه، أو يروي ما يقوم مقامه من أحاديث صحيحة في الباب، ويحرص على نشره؛ فنقف له على أسانيد صحيحة؛ أو - على الأقل - على إسناد واحد صحيح، أو حتى حسن؟!

المثال السادس: اعتماد الذين جاءوا بعد ابن حجر – أو أكثرهم – على كتابه (تقريب التهذيب) اعتماداً كلياً أو شبه كلي؛ وهؤلاء من هذه الطائفة الثانية قطعاً.

المثال السابع: أنهم صاروا يعدون نقد الحديث شيئاً سهلاً يتيسر لكثير من الطلبة والشداة الراغبين؛ ولو قل عناؤهم في هذا الفن ونزر نصيبهم من فهمه.

المثال الثامن: أنهم جعلوا الأصل في الأحاديث الضعيفة الواردة من أكثر من طريق ضعيفة: أنها تتقوى بتلك الطرق؛ وفي هذا الأصل نظر؛ بل لو عورض بضده لربما كان ذلك الضد هو الأرجح؛ أو على الأقل يكون الأصل الصحيح في هذه القضية التوقف إلا بعد النظر والتدبر في هذه المسألة الخطيرة من قِبل أهله الذين هم أهله؛ وما أقلهم.

المثال التاسع: تقوية الراوي الذي يوثقه ابن حبان بكثرة الرواة عنه ولو كانوا من غير المتثبتين؛ بل ولو لم يرووا عنه إلا حديثاً واحداً أو حديثين أو ثلاثة أحاديث.

المثال العاشر: الحكم على طائفة كبيرة من الأحاديث بأنها على شرط الشيخين أو أحدهما؛ مع أن الأمر دقيق والمقام وعر جداً؛ وفي هذه المسألة تفصيل ليس هذا موضعه.

المثال الحادي عشر: لا يحكمون على الحديث بالوضع إلا بشروط شديدة مثل أن يكون في سنده راو وضاع يتفرد به؛ ويكون – مع ذلك – المتنُ منكراً جداً؛ وهذا خلاف صنيع الطائفة الأولى.

وهذه الأمثلة إنما هي قليل من كثير؛ وإلى اللقاء القادم إن شاء الله.

ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[20 - 11 - 05, 09:00 م]ـ

الفرق الثالث

وأما ثالث الفروق فهو الفرق بين الطائفتين في سعة الاطلاع على القواعد الفرعية والضوابط الجزئية والتفاصيل وتفاصيلها.

وهذا الفرق قد تقدمت الإشارة الواضحة إلى معناه؛ بل هو في الحقيقة أصل كل الفروق الأخرى وأساسها وسبب نشأتها؛ وهو زبدة هذا المبحث، وعليه يدل عنوانه؛ وحوله تدور أركانه؛ فإن علماء العلل، وهم أئمة الفن على الحقيقة، قد بلغوا من معرفة التفاصيل مبلغاً عجيباً؛ ولولا ذلك لما تيسر لهم تعليل الأحاديث التي ظاهرها الصحة ولا تصحيح الأحاديث التي ظاهرها الضعف؛ ولولا ذلك أيضاً لما خرجوا عن القواعد والضوابط في مئات بل آلاف من المرات؛ ولولا ذلك أيضاً لما خالفوا من تقدمهم أو عاصرهم من الأئمة الجهابذة الأثبات؛ فهم المجتهدون حقاً وهم العلماء قطعاً؛ ورحم الله عبد الرحمن بن مهدي إذ قال: من لم يعرف صحيح الحديث من سقيمه فليس بعالم.

إني لا أريد أن أحشر في هذا المبحث الوجيز أمثلة لعظمة حفظ علماء العلل وسعة اطلاعهم وغزارة علمهم وكمال فهمهم؛ لأن الطريق الذي سلكته في هذا المبحث أضيق من أن يتسع لذلك؛ ولأن تلك المناقب معروفة بل هي مشتهرة متواترة؛ وقد ذكرها كثير من المؤلفين قديماً وحديثاً؛ كابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل؛ ثم أصحاب التواريخ الموسعة كالخطيب وابن عساكر والذهبي؛ وأصحاب كتب السير والطبقات، كالذهبي في السير والتذكرة؛ وأصحاب كتب المصطلح كالخطيب في الكفاية والجامع، وابن الصلاح ومن تابعهما؛ وغيرهم كثير جداً؛ وفي بعض موضوعات هذا الملتقى جملة طيبة من ذلك.

وأما علماء الطائفة الثانية فليسوا كذلك؛ فلا أعلم أحداً خالف طريقة علماء العلل وتأثر ببعض طريقة المتكلمين ومشى على طريقة محدثي الفقهاء، إلا وهو دون علماء العلل، بكثير، في كل – أو بعض – مناقبهم وخصائصهم، التي أهلتهم لبيان تفاصيل هذا الفن بكلام دقيق محكم غريب مصيب، حتى كأنهم أُلهِموه إلهاماً؛ أو كأنهم صحبوا كل راوٍ أعواماً؛ فهم يخبرون عن كل راو إخبار من أبصره، بل من عايشه وعاشره.

وكذلك شأنهم في نقدهم الأحاديث؛ فكأنهم كانوا يراقبون الرواة حال السماع وفي زمن التحمل وحال الأداء؛ فما أعظم علمهم وما أشد حاجتنا إليه وما أعظم ثقتنا به؛ ورحمهم الله؛ فكم من سر لا بد من إذاعته فأذاعوه، وكم من ستر لا بد من كشفه فكشفوه؛ والحمد لله الذي حفظ بهم دينه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير